اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم والعن أعدائهم

 
اسم البحث او المقالة : التفاعل بين الفكر الأصولي والفكر الفقهي
الكاتب : آية الله الشّهيد مُحمّد باقر الصّدر قُدّس سرّه
الموضوع : أصول
تاريخ النشر : 22/10/2006



بسم الله الرّحمن الرّحيم

التفاعل بين الفكر الأصولي والفكر الفقهي(1)

إن علم الأصول يقوم بدورالمنطق بالنسبة إلى علم الفقه, والعلاقة بينهما علاقة النظرية والتطبيق، وهذا الترابط الوثيق بينهما, يفسّر لنا التفاعل المتبادل بين الذهنية الاصوليةعلى صعيد النظريات من ناحية, وبين الذهنية الفقّهيّة على صعيد التطبيق من ناحية أخرى؛ لإن توسع بحوث التطبيق يدفع بحوث النظرية خطوة إلى الأمام ؛ لانه يثير أمامها مشاكل ويضطرها, إلى وضع النظريات العامّة لحولها، كما أنّ دقة البحث في النظريات الأصولية, تنعكس على صعيد التطبيق, إذ كلما كانت النظريات أوفر وأدق, تطلّبت طريقة تطبيقها دقّةً وعمقا أكبر. وهذا التفاعل بين الذهنيتيّن الاصوليّة والفقّهيّة, يؤكده تاريخ العلمين على طول الخط، وتكشف عنه بوضوح دراسة المراحل التي مرّ بها البحث الفقّهي, والبحث الاصولي في تاريخ العلم، فقد نشأ علم الاصول في أحضان علم الفقه, كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث . ولم يكن علم الاصول مستقلاً عن علم الفقه في البداية, ومن خلال نمو علم الفقه وإتّساع أفق التفكير الفقّهي أخذت الخيوط العامة، والعناصر المشتركة في عملية الاستنباط تبدو وتتكشف, وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون إشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامة, لا يمكن إستخراج الحكم الشرعي بدونها، وكان ذلك إيذانا بمولد علم الاصول, وإتجاه الذهنية الفقهية إتجاها أصوليا ، فانفصل علم الاصول عن علم الفقه في البحث والتصنيف, وأخذ يتسع ويشرى تدريجا, من خلال نمو الفكرالاصولي من ناحية, وتبعا لتوسع البحث الفقهي من ناحية أخرى؛ لإن إتّساع نطاق التطبيق الفقّهي, كان يلفت أنظار الممارسين إلى مشاكل جديدة, فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة, وتتخذ الحلول صورة العناصرالمشتركة في علم الاصول . وكلما بعد الفقيه عن عصر النص تعدد جوانب الغموض في فهم الحكم من مداركه الشرعية, وتنوّعت الفجوات في عملية الإستنباط, نتيجة للبعد الزمني ، فيحس أكثر فاكثر, بالحاجة إلى تحديد قواعد عامة يعالج بها جوانب الغموض, ويملأ بها تلك الفجوات، وبهذا كانت الحاجة إلى علم الاصول تاريخية, بمعنى أنها تشتد وتتأكد كلما إبتعد الفقيه تاريخيا عن عصر النص, وتراكمت الشكوك على عملية الإستنباط التي يمارسها. وعلى هذا الأساس يمكن أن نفسّر الفارق الزّمني بين إزدهار علم الاصول في نطاق التفكير الفقّهي السّني, وإزدهاره في نطاق تكفيرنا الفقّهي الإمامي، فإن التاريخ يشير إلى أنّ علم الاصول ترعرع وإزدهر نسبيا في نطاق الفقه السني قبل ترعرعه وإزدهاره في نطاقنا الفقهي الامامي، وذلك؛ لإن المذهب السنّي كان يزعم إنتهاء عصر النصوص, بوفاة النبيّ صلى الله عليه وآله, فحين إجتاز الفكر الفقهي السنّي القرن الثاني, كان قد إبتعد عن عصر النصوص بمسافة زمنيّة كبيرة, تخلق بطبيعتها الثغرات والفجوات. وأما الاماميّة فقد كانوا وقتئذ يعيشون عصر النص الشرعي؛ لإن الإمام إمتداد لوجود النبي, فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الإماميّة في الاستنباط, أقل بكير إلى الدّرجة التي لا تفسح المجال للاحساس, بالحاجة الشديدة إلى وضع علم الاصول, ولهذا نجد أن الإماميّة بمجر ان انتهى عصر النصوص بالنسبة إليهم, ببدء الغيبة أو بإنتهاء الغيبة الصغرى بوجه خاص, تفتّحت ذهنيتهم الأصوليّة, وأقبلوا على درس العناصر المشتركة. وهذا لا يعني طبعا, أن بذور التفكير الأصولي لم توجد لدى فقهاء أصحاب الائمة, بل قد وجدت هذه البذور منذ أيام الصادقين عليهما السلام, على المستوى المناسب لتلك المرحلة، ومن الشواهد التاريخية على ذلك, ما ترويه كتب الحديث من أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط, وجهها عدد من الرّواة إلى الإمام الصادق وغيره من الائمة عليهم السلام, وتلقّوا جواباً منهم، فإن تلك الأسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الاصولي عندهم . ويعزز ذلك أن بعض أصحاب الائمة ألّفوا رسائل في بعض المسائل الاصولية, كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق, الذي روي أنّه ألّف رسالة في الالفاظ .