اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم والعن أعدائهم

 

نسبه الشّريف عليه السلام
الإمام جعفر بن مُحمّد بن عليّ بن الحُسين بن عليّ بن أبي طالب بن عبد المُطلب بن هشام بن‎ ‎
عبد مُناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن مرة بن لوي بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن ‏خزيمة مدرك بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان عليهم السّلام‎. ‎
أمّه فاطمة المُكناة بأم فروة بنت القاسم بن مُحمّد بن أبي بكر. والقاسم أبوها هو من ثقاة الإمام زين العابدين وأحد ‏الفقهاء السّبعة بالمدينة وجدها مُحمّد بن أبي بكر0قال الإمام الصّادق عن والدته: كانت أمّي ممّن آمنتْ واتّقت وأحسنتْ ‏واللهُ يحبّ المُحسنين‎.‎

ولادته عليه السلام
وُلد عليه السّلام بالمدينة المنورة، في السّابع عشر من ربيع الأوّل 83 هـ‏‎.‎
وكانَتْ ولادَتُه عليه السّلام في زمن الحاكم الأموي عبد الملك بن مَرْوان، وتربَّى في أحضان أبيه الإمام الباقر وجَدِّه ‏الإمام السّجاد عليهم السّلام، وعنهما أخذَ عليه السّلام علوم الشّريعةِ ومعارِفَ الإسلام‎.‎
تاريخ ولادته عليه السلام
كانت تسير في بيت الرّسالة موجة كريمة من السّرور والابتهاج، ترتقب مجداً يهبط في تلك الليلة، وفي ذلك الجو ‏الميمون ولد الإمام الصّادق عليه السّلام في 17 ربيع الأوّل سنة 80 هجرية في المدينة المنورة. وكان شعلة نور ‏بازغة سخت بها إرادة السّماء لتضيء لأهل الأرض، وتنير سبلها إلى الخير والسّلام‎.‎


كنيته عليه السلام
الإمام جعفر الصّادق عليه السّلام، هو سادس أئمة أهل البيت عليهم السّلام‎ ‎
كان عليه السّلام يُكنَّى بأبي عبد الله، وأبي إِسماعيل، وأبي موسى، وأوّلها أشهرها‎.‎

ألقابه عليه السلام
ألقاب الإمام عليه السّلام عديدة ؛ منها: الصّادق، والفاضل، والقائم، والكافل، والمنجي، والطّاهر، والصّابر، وأوّلها ‏أشهرها‎.‎
لقَّبه بالصّادق جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله، حيث قال: ويخرج الله من صُلبه - أي صُلب مُحمّد الباقر - كلمة ‏الحق، ولسان الصّدق، فقال له ابن مسعود: فما اسمه يا نبي الله؟‎ ‎
قال: يقال له: جعفر، صادق في قوله وفعله، الطّاعن عليه كالطّاعن عليّ، والرادّ عليه كالرادّ عليّ‎....‎
وبلغ من شهرته بهذا اللقب أنّه صار كالاسم له، حتّى أنّه ليُستغنى به عن ذكر اسمه، ويُعرف به إذا أُطلق، وكذلك ‏كنيته بأبي عبد الله، صارت كالاسم له يُستغنى بها عن اسمه ولقبه، لا سيّما في الأحاديث الشّريفة‎.‎

نشأته عليه السلام
حيث كانت حياة الإمام ما بين عام 83 و148 هـ فقد قارنت شطراً من حياة الإمام السّجاد وأيام إمامته، حيث كانت ‏إمامته ما بين عام 61 و95 هـ، فقد عاش مع جدّه السّجاد 15 سنة ومع أبيه الباقر عليه السّلام 34 سنة‏‎. ‎

زوجاته عليه السلام
تزوج الإمام الصّادق عليه السّلام من فاطمة بنت الحُسين بن عليّ بن الحُسين عليهم السّلام فأنجب منها إسماعيل الذي ‏تنسب إليه الفرقة الاسماعيلية وعبد الله الأفطح الذي تنسب إليه الفرقة الفطحية وأم فروة أم الإمام موسى بن جعفر ‏عليهما السّلام، وله من زوجاته الأخريات العباس، وعليّ وأسماء وفاطمة‎.‎

أولاده عليه السلام
‏1‏‎ - ‎إسماعيل‎.‎
‏2‏‎ - ‎عبد الله‎.‎
‏3‏‎ - ‎موسى الكاظم‎.‎
‏4‏‎ - ‎إسحاق‎.‎
‏5‏‎ - ‎مُحمّد‎.‎
‏6‏‎ - ‎العباس‎.‎
‏7‏‎ - ‎عليّ‎.‎
‏8‏‎ - ‎أم فروة‎.‎
‏9‏‎ - ‎أسماء‎.‎
‏10‏‎ - ‎فاطمة‎.‎

نقش خاتمه عليه السلام
اللهُ وَلِيِّي وَعِصمَتِي مِن خَلْقِه‎.‎

مُدّة عمره وإمامته عليه السلام
‏65‏‎ ‎سنة منها 34 سنة مُدّة إمامته عليه السّلام‏‎.‎

الأزمة التي عاصرها عليه السلام وحُكّام عصره
عاصر الإمام الصّادق ظلم بني أميّة أكثر من أربعين سنة، وعاش في زمن بني العباس أكثر من عشرين سنة. وظل ‏بعيداً عن السّياسة منصرفاً إلى تثبيت دعائم الدّين في نفوس النّاس، ونشر أخلاق الإسلام وعقائده في زمن راجت فيه ‏العقائدُ الإلحاديّة والمنحرفة‎.‎
تصدّى الإمام الصّادق إلى محاربة الإلحاد والزّندقة. وفي عهده انتشر مذهب أهل البيت عليهم السّلام‎.‎
‎ ‎لقد عايش الإمام جعفر بن مُحمّد الصّادق عليهما السّلام الظّلم والارهاب للحكام الأمويين والعباسيين ضد أبناء الأمة ‏بصورة عامّة والعلويين بصورة خاصّة‎. ‎
أمّا الأمويون فهم‎:‎
‏1‏‎ - ‎هشام بن عبد الملك‎.‎
‏2‏‎ - ‎إبراهيم بن الوليد‎.‎
‏3‏‎ - ‎مروان الحمار‎.‎
وأمّا العباسيون فهم‎:‎
‏1‏‎ - ‎أبو العباس السفاح‎.‎
‏2‏‎ - ‎أبو جعفر المنصور الدوَانِيقي‎.‎

أقوال العلماء فيه عليه السلام
شهد القاصي والدّاني، والمُؤالف والمخالف، أنَّ الإمام الصّادق عليه السّلام هو صاحب المقام العلميِّ الرّفيع، الذي لا ‏ينازعه فيه أحد‎.‎
حتّى توافدت كلمات الثّناء، والإكبار، والإعجاب عليه عليه السّلام، من قِبَل الحكَّام، وأئمَّة المذاهب، والعُلماء، ‏والمؤرِّخين، وأصحاب السِيَر، وتراجم الرّجال، ما تزدحم، فلا يجمعها إلاَّ كتاب‎.‎
نكتفي من تلك الكلمات بإشارات، منها‎:‎
قال أبو حنيفة: ما رأيت أفقهَ مِن جعفر بن مُحمّد، لمَّا أقدمه المنصور بعث إليَّ فقال: يا أبا حنيفة، إنَّ النّاس قد افتُتِنُوا ‏بجعفر، فهيِّئ له من المسائل الشِّداد‎.‎
فهيَّأتُ له أربعين مسألة، فلمَّا أبصرتُ به دخلَتْني من الهيبة لجعفر الصّادق ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور‎.‎
فجعلتُ أُلقي عليه فيُجيبني فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربَّما تابعناهم، وربَّما ‏خالفنا جميعاً‎.‎
حتى أتيت على الأربعين مسألة، ثمّ قال: ألَسْنا رَوينا أنَّ أعلم النّاس، أعلمُهم باختلاف النّاس؟‎.‎
واعترف أبو جعفر المنصور، وأقرَّ بفضله حين قال: إنَّ جعفراً كان ممَّن قال اللهُ فيه: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا ‏مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. فاطر: 32‏‎.‎
وكان ممَّن اصطفاه الله، وكان من السّابقين في الخيرات‎.‎
و قال أحمد بن حجر الهيثمي: جعفر الصّادق نقل النّاس عنه من العُلوم ما سارت به الرّكبان وأنتشر صيته في جميع ‏البُلدان‎.‎
‎ ‎وقال أبو الفتح الأربلي: وقف الصّادق نفسه على العبادة وحبسها على الطّاعة والزّهادة واشتغل بأوراده وتهجده ‏وصلاته وتعبده‎.‎
‎ ‎قال زيد بن عليّ بن الحُسين الثّائر المعروف: في كُلّ زمان رجلٌ منّا أهلَ البيت يحتجّ اللهُ به على خلْقه، وحجّة زماننا ‏إبن أخي جعفرُ بن مُحمّد.. لا يضلّ من تبعَه ولا يهتدي من خالفه‎.‎
وقال فيه مالك بن أنس إمام المذهب المالكي: اختلفت إلى الصّادق زماناً، فما كنت أراه إلاّ على إحدى خصال ثلاث: ‏إمّا مصلّ، وإمّا صائم، وإمّا يقرأ القُرآن‎..‎
‎ ‎والله ما رأت عيني أفضلَ من جعفر بن مُحمّد زهداً وفضلاً وعبادةً وورعاً، وكنت أقصده فيكرمني ويُقبل عليّ‎.‎
وتتلمذ على يديه أبو حنيفة إمام المذهب الحنفي مدّة عامين، وكان يقول: لولا السّنتان لهلك النّعمان‎.‎
وروى أحد أصحابه: كنت مع أبي عبد الله عليه السّلام بالمدينة وهو راكب حماره، فلمّا وصلنا قريب السّوق، نزل ‏الإمام فسجد لله وأطال السّجود وأنا أنتظره، ثمّ رفع رأسه، فقلت: جُعلتُ فداك رأيتك نزلت فسجدت؟
قال الإمام: إنّي ذكرت نعمة الله عليّ فسجدتُ شاكراً‎.‎
وقال آخر: رأيتُ أبا عبد الله عليه السّلام وبيده مسحاة وعليه إزارٌ غليظ يعمل في بستان له، والعرق يتصبّب منه، ‏فقلت: جُعلت فداك: أعطني المسحاة أكفِك العمل فقال لي: إني أحبّ أن يتأذّى الرّجل بحرّ الشّمس في طلب المعيشة‎.‎

عبادته عليه السلام
أمّا الإقبال على عبادة الله تعالى وطاعته فإنّه من أبرز صفات الإمام، فقد كان من أعبد النّاس لله في عصره، وقد ‏أخلص في طاعته لله كأعظم ما يكون الإخلاص، وإليك صورة موجزة عن عباداته‎:‎
صلاته‎ عليه السّلام
إنّ الصّلاة من أفضل العبادات وأهمها في الإسلام، وقد أشاد بها الإمام الصّادق عليه السّلام في كثير من أحاديثه‎:‎
قائلاً عليه السّلام: "ما تقرب العبد إلى الله بعد المعرفة أفضل من الصّلاة‎".‎
وقال عليه السّلام: "إنّ أفضل الأعمال عند الله يوم القيامة الصّلاة، وما أحسن من عبد توضأ فأحسن الوضوء‎".‎
وقال عليه السّلام: الصّلاة قُربان كُلّ تقي‎.
وقال عليه السّلام: "أحب الأعمال إلى الله عزَّ وجلَّ الصّلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء، فما أحسن الرّجل يغتسل أو ‏يتوضأ فيسبغ الوضوء ثمّ يتنحى حيث لا يراه أنيس فيشرف الله عليه وهو راكع أو ساجد إنّ العبد إذا سجد فأطال ‏السّجود نادى إبليس: يا ويله أطاعوا وعصيت، وسجدوا وأبيت‎".‎
وقال أبو بصير: دخلت على اُم حميدة ـ زوجة الإمام الصّادق عليه السّلام ـ اُعزّيها بأبي عبد الله عليه السّلام فبكت ‏وبكيت لبكائها، ثمّ قالت: يا أبا مُحمّد لو رأيت أبا عبد الله عند الموت لرأيت عجباً فتح عينيه ثمّ قال: اجمعوا كُلّ من ‏بيني وبينه قرابة. قالت: فما تركنا أحداً إلاَّ جمعناه، فنظر إليهم ثمَّ قال: "إنّ شفاعتنا لا تنال مُستخفاً بالصّلاة‎".‎
ومن الجدير بالذكر أنّ الإمام عليه السّلام لم يدع نافلة من نوافل الصّلاة إلاّ أتى بها بخشوع وإقبال نحو الله. وكان عليه ‏السّلام إذا أراد التّوجه إلى الصّلاة اصْفَرَّ لونه، وارتعدت فرائصه خوفاً من الله تعالى ورهبة وخشية منه. وقد أثرت ‏عنه مجموعة من الأدعية في حال وضوئه، وتوجهه إلى الصّلاة وفي قنوته، وبعد الفراغ من صلاته‎.‎
صومه عليه السّلام
إنّ الصّوم من العبادات المُهمة في الإسلام، وذلك لما يترتب عليه من الفوائد الاجتماعية والصّحية والأخلاقيّة، "وهو ‏جُنّة من النّار"كما قال الإمام الصّادق عليه السّلام. وقد حث الإمام الصّادق عليه السّلام الصّائم على التّحلّي بالأخلاق ‏والآداب التّالية، قال عليه السّلام: "وإذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك من القبيح والحرام، ودع المراء، ‏وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصّيام، ولا تجعل يوم صومك مثل يوم فطرك سواء‎..".‎
وكان عليه السّلام صائماً في أغلب أيامه تقرباً إلى الله تعالى. أمّا شهر رمضان المُبارك فكان يستقبله بشوق بالغ، وقد ‏أثرت عنه بعض الأدعية المُهمة عند رؤيته لهلاله، كما أثرت عنه بعض الأدعية في سائر أيامه وفي ليالي القدر ‏المُباركة وفي يوم عيد الأضحى الأغرّ‎.‎
أخذ أهل البيت عليهم السّلام كثرة العبادة عن جدهم الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، فقد تورمت قدماه صلّى الله ‏عليه وآله من كثرة الصّلاة، حتّى خاطبه الجليل تعالى: طه ما أنزلنا عليك القُرآن لتشقى‎.‎
وسئل صلّى الله عليه وآله: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
فقال: نعم، ولكن أليس ينبغي أن أكون عبداً شكوراً‎.‎
وعلى هذا النّهج سار أمير المؤمنين عليه السّلام، فكان يُصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، وشوهد في صفين يُصلّي ‏ورده بين الصّفين، والنّبال تمر على صماخيه كأنّها المطر فلا يرتاع لذلك‎.‎
ولئن فاتت الإمام الصّادق عليه السّلام معاينة عبادة جدّيه الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه ‏السّلام، فقد شاهد عبادة جدّه عليّ بن الحُسين عليه السّلام، الذي أخذت ألقابه من عبادته فصار لا يعرف إلاّ بزين ‏العابدين، السّجاد، ذي الثّفنات. وقد تواتر النّقل: بأنّه كان يُصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة‎.‎
والإمام الصّادق عليه السّلام غصن من هذه الشّجرة المُباركة، وفرع لهذه الدّوحة العلويّة، فلا غرو إن كانت عبادته ‏كعبادتهم عليهم السّلام‎.‎
‎ ‎وقد تحدث أهل التّاريخ والسّير عن عبادته عليه السّلام، وكتبوا في ذلك الكثير‎.‎
قال كمال الدّين مُحمّد بن طلحة الشّافعي‎:‎
هو من عُظماء أهل البيت وساداتهم، ذو علوم جمة، وعبادة موفرة، وأوراد متواصلة، وزهادة بينة، وتلاوة كثيرة، ‏يتبع معاني القُرآن الكريم، ويستخرج من بحر جواهره، ويستنتج عجائبه، ويقسم أوقاته على الطّاعات بحيث يحاسب ‏نفسه. رؤيته تُذكّر الآخرة، واستماع كلامه يزهد في الدّنيا، والاقتداء بهديه يورث الجنة‏‎. ‎
‎ ‎وقال أبو نعيم الأصبهاني: أقبل على العبادة والخضوع، وآثر العزلة والخشوع‎. ‎
وقال سبط ابن الجوزي: قال عُلماء السّير: كان قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرّئاسة‎.‎
‎ ‎وقال الأستاذ سيّد الأهل في صفته: يُعلّم الزّهاد زهداً... الخ‎. ‎
‎ ‎قال منصور الصّيقل: رأيت أبا عبد الله عليه السّلام ساجداً في مسجد النّبيّ صلّى الله عليه وآله، فجلست حتّى أطلت، ‏ثمّ قلت: لأسبّحن ما دام ساجداً، فقلت: سبحان ربّي وبحمده، استغفر الله ربّي وأتوب إليه ثلاثمئة ونيفاً وستين مرة، ‏فرفع رأسه‎. ‎
ويجب على أمّة فيها مثل جعفر بن مُحمّد الصّادق، عبادةً وورعاً، ينبغي لكل فرد منها أن يُقيم الفرائض ـ على الأقل ـ ‏ويؤدي ما افترضه الله تعالى عليه من العبادة‎.‎
وكان الله في عوننا على اتخاذ هذه السّيرة الغراء دليلاً ومرشداً‎.‎

علمه عليه السلام
فرض الإمام الصّادق عليه السّلام إمامته ومرجعيته القيادية من النّاحية العلميَّة والفقهيَّة، بحيث لا يملك كبار العُلماء ‏من المذاهب الإسلاميّة الأخرى إلاَّ أن يعترفوا بذلك كاعتراف أبي حنيفة وغيره
قال الشّيخ المُفيد: ونقل النّاس عنه من العُلوم ما سارت به الرّكبان، وانتَشَر ذِكرُه في البُلدان‎.‎
‎ ‎ويقولُ أحدُ الرُوَاة: أدركْتُ في هَذا المَسجِد [ مسجد الكوفة ] تِسعمِئةَ شيخٍ، كلٌّ يَقول: حَدَّثني جَعفَر بن مُحمّد عليهما ‏السّلام‎.‎

معرفته عليه السّلام باللغات
لقد ورد في تاريخ حياة الإمام الباقر عليه السّلام أنّه كان يعرف العبريّة والسّريانية، والنّبطية و الفارسية والصّقلبية ‏والحبشية ويتحدث بها أيضاً. ولا عجب أن يعرف الإمام جعفر الصّادق عليه السّلام هذه اللغات وثقافات أممها، وأن ‏ينطلق في التحدث أو القراءة والكتابة فيها، وسيأتي أثناء عرضنا لبعض الرّوايات المأثورة عن الإمام أبي عبد الله ‏عليه السّلام ما يثبت ذلك0‏
الفارسية‎ ‎
عن مُحمّد بن أحمد عن أبي عبد الله قال: دخل عليه قوم من أهل خراسان، فقال ابتداء من غير مسألة: من جمع مالاً ‏من مهاوش اذهبه الله في نهابر. فقالوا: جُعلنا فداك، لا نفهم هذا الكلام، فقال عليه السّلام: "ازباد آيد بدم بشود" ما يأتي ‏به الرّيح يذهب به‎. ‎
العبرية‎ ‎
وأما معرفته بالعبرية وتحدثه بها فمما لا شك فيه أيضاً. فقد جاء في ثنايا الأحاديث المروّية عنه ما يثبت ذلك
عن عامر بن عليّ الجامعي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام جُعلت فداك، إنا نأكل ذبائح أهل الكتاب، ولا ندري ‏أيسمون عليها أم لا؟. فقال: إذا سمعتموهم قد سمّوا، فكلوا، أتدري ما يقولون على ذبائحهم؟ فقلت: لا. فقرأ كأنّه شبه ‏يهودي، قد عذها، ثم قال: بهذا أمروا. فقلت: جُعلت فداك، إن رأيت أن نكتبها. قال: اكتب: "نوح أيوا أدينوا يلهيز ما ‏لحوا عالم أشرسوا أو صوبنوا يوسعه موسق ذعال اسطحوا"0‏
النبطية‎ ‎
بدخول الاسلام بلاد الشّام وفلسطين بيزنطة الشرقية ازداد عدد الأنباط في حاضرة العالم الإسلامي، سواء الأحرار ‏منهم أم الموالي، وكثر التّزاوج بينهم وبين العرب، فتعلم البعض النّبطية من هذا الاختلاط‎.‎
عن يونس بن ظبيان النّبطي يحدث الإمام الصّادق عليه السّلام بالنّبطية ويخبره عن أول خارجة خرجت على موسى ‏بن عمران، وعلى المسيح، ثمّ على أمير المؤمنين بالنّهروان. ثمَّ قال لي: "كيف مالح دير بير ماكي مالح" يعني: عند ‏قريتك، وهو بالنبطية‎.‎
فمن خلال هذا العرض السّريع والاشارات الواضحة، يبين أن الصّادق عليه السّلام كان على معرفة تامة بلغات أهل ‏عصره وأبناء مجتمعه مهما بعدت أوطانهم واختلفت ثقاقاتهم‎.‎

علمه عليه السّلام بالطبّ
لاريب في أن الإمام جعفراً الصّادق عليه السّلام كان على إلمام تام بالطّب وما يتعلّق به. وقد خصصّ الإمام الصّادق ‏عليه السّلام في ما ألقاه على المفضّل بن عمر الجعفي فصلاً تحدّث فيه عن الطّبائع وفوائد الأدوية وتشريح الجسم ‏ومعرفة وظائف الأعضاء الفسيولوجية. وفي ثنايا كتب الأحاديث وما إليها حديث مستفيض من كلام الإمام الصّادق ‏عليه السّلام عن خواص الأشياء وفوائدها وعلاج الأمراض والأوجاع والحمية الوقائية. وسنورد بعض هذه الأحاديث ‏للتدليل على هذا القول تدليلاً قاطعاً‎.‎
قال مُحمّد بن مسلم سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول: ما وجدنا للحمى مثل الماء البارد‎.‎
وفي حديث آخر: الحمّى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء البارد‎.‎
وفي وجوب غسل الفاكهة قبل الأكل قال: إنّ لكل ثمرة سماً، فإذا أتيتم بها فامسكوها واغسلوها بالماء‎.‎
وفي الكافي عن أحمد بن مُحمّد عن بعض أصحابه قال: كنت أجالس أبا عبد الله عليه السّلام فلا والله ما رأيت مجلساً ‏أنبل من مجالسه. قال: فقال لي ذات يوم: من أين تخرج العطسة؟. فقلت: من الأنف. فقال لي: أصبت الخطأ. فقلت ‏جُعلت فداك، من أين تخرج؟ فقال: من جميع البدن، كما وأن النّطفة تخرج من جميع البدن... أما رأيت الإنسان إذا ‏عطس نفض أعضاءه؟. وهذا ابن ماسوية، أشهر أطباء عصره، ينصت للإمام الصّادق عليه السّلام في شرحه ‏وتوضيحه للطّبائع وعلى الأمراض. وحدث أبو هفان في محضر ابن ماسوية بأنّ جعفر بن مُحمّد عليه السّلام قال: ‏الطبائع أربع: الدم وهو عبد، وربما قتل العبد سيده، والريح، وهو عدو، إذا سددت له باباً أتاك من آخر. والبلغم وهو ‏ملك يُدارى، والمرة، وهي الأرض إذا رجفت رجفت بمن عليها. فقال ماسوية: أعد عليّ، فوالله ما يُحسن جالينوس أن ‏يصف هذا الوصف. وهذا طبيب المنصور يحضر عنده ليقرأ عليه كتاب الطّب، فإذا به يحضر مرة وعنده الصّادق ‏عليه السّلام، فجعل ينصت لقراءته، فلما فرغ، قال: يا أبا عبد الله، أتريد ممّا معي شيئاً، قال: لا، لأنّ ما معي خير ممّا ‏هو معك. قال: ما هو؟ قال: أداوي الحار بالبارد، والبارد بالحار، والرّطب باليابس، واليابس بالرّطب، وأرد الأمر كلّه ‏إلى الله، واستعمل ما قاله رسول الله وأعلم أنّ المعدة بيت الأدواء وأن الحميّة هي الدّواء، وأعود البدن ما اعتاد. قال ‏الطبيب وهل الطب إلا هذا؟ قال الصّادق: أتراني عن كتب الطّب أخذت؟ قال: نعم. قال: لا والله ما أخذت إلاّ عن الله ‏سبحانه وتعالى. فأخبرني: أنا أعلم بالطب أم أنت؟ قال: سل. فسأل عشرين مسألة، وهو يقول لا أعلم. فقال الصّادق ‏عليه السّلام: ولكني أعلم وبدأ بشرحها وتفصيلها. وهذا مذكور في كتب الحديث. وقد فصّل عليه السّلام الحديث على ‏الهيكل العظمي والأعصاب والجوارح في جسم الإنسان وشرحها شرحاً دقيقاً عندما سأله الطّبيب النّصراني عن ذلك. ‏فقد روى سالم الضرير: إنّ نصرانياً سأل الصّادق عليه السّلام تفصيل الجسم، فقال عليه السّلام: إنّ الله تعالى خلق ‏الإنسان على اثني عشر وصلاً، وعلى مائتي وستة وأربعين عظماً، وعلى ثلاثمئة وستين عرقاً. فالعروق هي التي ‏تسقي الجسد كلّه، والعظام تمسكها، والشّحم يمسك العظام، والعصب يمسك اللحم. وجعل في يديه اثنين وثمانين عظماً ‏في كُلّ يد واحد وأربعون عظماً، منها في كفه خمسة وثلاثون عظماً، وفي ساعده اثنان، وفي عضده واحد، وكتفه ‏ثلاثة وكذلك الأخرى. وفي رجله ثلاثة وأربعون عظماً، منها في قدمه خمسة وثلاثون عظماً، وفي ساقه اثنان، وفي ‏ركبته ثلاث، وفي فخذه واحد، وفي وركه اثنان، وكذلك في الأخرى. وفي صلبه ثماني عشرة فقرة، وفي كل واحد من ‏جنبيه تسعة أضلاع، وفي عنقه ثمانية، وفي رأسه ستة وثلاثون عظماً، وفي فيه ثمانية وعشرون واثنان وثلاثون. ولا ‏يتسنى تفصيل الجسم البشري والهيكل العظمي بهذه الدّقة إلا لمن اتيحت له فرصة دراسة الطّب والتّشريح. وقد أفاد ‏الإمام عليه السّلام غيره بهذا العلم، وتخرج من مدرسته هذه عدد من أصحابه. ومن خريجي مدرسة الإمام الصّادق ‏عليه السّلام العلمية في مجال الطّب والصّيدلة جابر بن حيّان الطّرطوسي. فهو بالاضافة إلى تخصصه في الكيمياء ‏صنّف مؤلفات في الطّب أورد منها ابن النديم:رسالة في الطّب وكتاب السّموم وكتاب المجسة وكتاب النّبض وكتاب ‏التّشريح. وكان جابر بن حيّان أوّل من أشار إلى طبقات العين، فسبق بذلك يوحنا ابن ماسوية المتوفي سنة243 هـ، ‏وسبق حنين بن اسحاق المتوفي سنة264 هـ، وهما من أعلام الطّب في ذلك العصر. ومن أبناء هذه المدرسة أبو عليّ ‏الحسن بن فضل، وهو من أصحاب الإمام الرّضا عليه السّلام ومن علماء الشيعة العظام في عصره الذين برعوا في ‏علم الطب وألفّوا فيه. ومن مؤلفاته كتاب الطب وكتاب النّجوم‎.‎

علمه عليه السّلام بالكيمياء
تتزايد أهمية الكيمياء يوماً بعد يوم، وتثبت التّجارب العلمية الحديثة أنّ الحياة تتألف من عمليات كيميائيّة مُعقدّة، كما ‏ثبت أنّ الوراثة وليدة للتفاعلات الكيميائية. بل لعلم الكواكب والأرض تكونت نتيجة لعمليات كيميائية مستمرة، كما أن ‏التغييرات التي تطرأ على الكون هي في كثير من الحالات ذات طبيعة كيميائية. ومن الشّائع الثّابت أنّ الإمام الصّادق ‏عليه السّلام كان على علم بخواص الأشياء منفردة ومركّبة، وأنه درّس علم الكيمياء في مدرسته قبل اثني عشر قرناً ‏ونصف قرن. واشتهر من تلامذته في هذا العلم هشام بن الحكم المتوفي حوالي سنة199 هـ وهو من أصحاب الصّادق ‏عليه السّلام وتلامذته، وله نظرية في جسمية الأعراض كاللون والطعم والرائحة، وقد أخذ ابراهيم بن سيّار النظّام ‏المعتزلي هذه النظرية لمّا تتلمذ على هشام. وقد أثبتت صحة هذا الرأي النّظريات العلميّة الحديثة القائلة أنّ الضّوء ‏يتألف من جزيئات في مُنتهى الصّغر، تجتاز الفراغ والأجسام الشّفافة، وأنّ الرّائحة أيضاً من جزيئات مُتبخرة من ‏الأجسام تتأثر بها الغدد الأنفية، وأن المذاق جزيئات صغيرة تتأثر به الحليمات اللسانية. ومن تلامذة الإمام الصّادق ‏عليه السّلام الذين اشتهروا ببراعتهم في الكيمياء والعلوم الطبيعية جابر بن حيّان الصّوفي الطّرطوسي، الذي دوّن ‏وألف خمسمئة رسالة من تقريرات الإمام في علمي الكيمياء والطّب في ألف ورقة. وقد ذكر، ابن النديم في الفهرست ‏وأطال فيه الكلام، وذكر له كتباً ورسائل في مُختلف العُلوم ولا سيما في الكيمياء، والطّب، والفلسفة والكلام. وقد تمكن ‏جابر من تحقيق وتطبيق طائفة كبيرة من النّظريات العلميّة، أهمها تحضيرحامض الكبريتيك بتقطيره من الشبّة. ‏وسمّهزيت الزاج. كما حضرحامض النتريك وماء الذهب والصّودا الكاوية. وكان جابر أوّل من لاحظ ترسّب كلورود ‏الفضة عند إضافة محلول ملح الطعام إلى محلول نترات الفضة‎. ‎

نسبيّة الزمن عند الإمام الصادق عليه السّلام
في رأي الصّادق عليه السّلام أنّ الزّمان غير موجود بذاته، ولكنه يكتسب واقعيته وأثره من شعورنا وإحساسنا، كما ‏أنّ الزّمان هو حدّ فاصل بين واقعتين أو وحدتين. وهو يرى أنّ الليل والنّهار ليسا من أسباب تشخيص الزّمان ‏ومعرفته، وإنّما هما حقيقتان مستقلتان عن الزّمان، يضاف إلى ذلك أنّ الليل والنّهار ليس لهما طول ثابت، فالليل ‏يقصر في الصّيف ويطول في الشّتاء، والنّهار على عكسه، وهما يتعادلان أحياناً. وفي رأي الصّادق عليه السّلام أنّ ‏للمكان وجوداً تبعيّاً لا ذاتياً، وهو يتراءى لنا بالطّول والعرض والارتفاع، ولكن وجوده التّبعي يختلف باختلاف ‏مراحل العُمر، فمن ذلك مثلاً أنّ الطّفل الذي يعيش في بيت صغير، يرى بخياله وأحلامه أن فضاء البيت ساحة كبرى. ‏ومتى بلغ هذا الطّفل العشرين من عمره، رأى هذه الدار مكاناً صغيراً جداً، وأدهشه أنّه كان يراها واسعة رحيبة في ‏طفولته. فللمكان، بناء على ذلك، وجود تبعي لا حقيقي، وفي هذا اتفقت آراء علماء الفيزياء في القرن العشرين مع ‏رأي الإمام الصّادق في القرن السّابع الميلادي‎.‎

نظرية الضوء عند الإمام الصادق عليه السّلام
من مبتدعات الإمام جعفر الصّادق عليه السّلام نظريته الخاصة بالضّوء. فمن رأيه أنّ الضّوء ينعكس من الأجسام ‏على صفحة العين البشريّة، أمّا الأجسام البعيدة فلا ينعكس منها إلاّ جزء صغير من الضّوء، ولهذا تتعذر رؤيتها ‏بالوضوح الكافي. أمّا إذا استعنا بجهاز أو آلة لتقريب الضّوء إلى العين، كالجهاز الكهربي الضّوئي مثلاً فعندئذ يمكننا ‏مشاهدة الجسم البعيد بنفس حجمه الحقيقي وبوضوح تام، بمعنى أنّ الجسم الذي يبعد عنا بثلاثة آلاف ذراع، نراه ‏وكأنه يبعد عنا بستين ذراعاً، فنكون بذلك قد قربناه أكثر من خمسين مرة. ونتيجة للاتصال الذي تحقق بين أوربا ‏والشّرق في أثناء الحروب الصّليبية، انتقلت هذه النّظرية من الشّرق إلى أوروبا، ودرست في المعاهد العلمية ‏والجامعات الأوربية. وهناك نقطة بالغة الأهمية في نظرية الإمام الصّادق عليه السّلام بشأن الضّوء، هي تأكيده، بأن ‏الضّوء ينعكس من الأجسام إلى العين، وهو قول يناقض التفكير الذي كان سائداً في ذلك العصر وكان مؤداه أنّ ‏الضّوء ينعكس من العين على الأجسام المرئية. والإمام الصّادق عليه السّلام وهو أوّل عالم في تاريخ الإسلام كلّه ‏يناقض هذا الرّأي السّائد. فقد قال: إنّ الضوء لا ينعكس من العين على الأجسام بل الذي يحدث فعلاً هو نقيض ذلك، ‏أي أنّ الضّوء ينعكس من الأجسام ويصل إلى العين. دليل ذلك أننا لا نرى في الظّلمة شيئاً، ولو أنّ العين كانت تعكس ‏الضّوء على الأجسام لشاهدنا الأجسام نهاراً وليلاً. وللإمام الصّادق عليه السّلام نظرية أخرى عن الضّوء وحركته ‏وسرعته لا تقل أهمية عن نظريته الخاصة بالضّوء وانعكاساته. فمما قاله: أنّ الضّوء ينعكس من الأجسام على العين ‏بسرعة كلمح البصر. أي أنّ الإمام الصّادق عليه السّلام عرف أنّ للضّوء حركة كلمح البصر، فهو إذن قد اكتشف ‏نظريّة الضّوء، وقال: إنّ للضوء حركة وإنّ هذه الحركة سريعة جداً. أفلا يدل هذا كلّه على أنّه كان سابقاً على ‏عصور علمية كثيرة؟0‏

مواعظه عليه السلام
هناك مجموعة كبيرة من المواعظ والحكم للإمام الصّادق عليه السّلام، نذكر بعضاً منها‎:‎
‏1ـ قال عليه السّلام: إِن كان الله قد تَكَفَّل بالرّزق فاهتمامك لماذا؟‍ وإِن كان الرّزق مَقسُوماً فالحِرصُ لماذا؟ وإِن كان ‏الحِسَاب حقاً فالجَمْعُ لماذا؟ وإِن كان الثّواب عند الله حقاً فالكسَل لماذا؟ وإِن كان الخلف من الله عزَّ وجلَّ حقّاً فالبُخل ‏لماذا؟ وإِن كان العقوبة من الله عزَّ وجلَّ النّار فالمعصية لماذا؟ وإِن كان الموت حقّاً فالفرح لماذا؟ وإِن كان العرض ‏على الله حقّاً فالمكر لماذا؟ وإِن كان الشّيطان عدوّاً فالغفلة لماذا؟ وإِن كان المَمَرُّ على الصّراط حقّاً فالعجب لماذا؟ وإِن ‏كان كل شيء بقضاء وقدر فالحزن لماذا؟ وإِن كانت الدّنيا فانية فالطمأنِينَة إليها لماذا؟‎ ‎
‏2ـ قال عليه السّلام: إِنَّكم في آجال مَقبوضَة، وَأيَّام معدودة، والموت يأتي بَغتةً، من يزرعُ خيراً يحصد غِبطَةً، ومن ‏يزرعُ شَرّاً يحصد نَدامَة، ولِكُلِّ زارعٍ زرعٌ، لا يسبق البطيءُ منكم حَظَّهُ، ولا يدرك حريصٌ ما لم يُقَدَّرُ لَهُ، من أُعطِي ‏خيراً فاللهُ أعطاه، ومن وُقِي شراً فاللهُ وَقَاه‎.‎
‏3ـ قال عليه السّلام: تأخِيرُ التوبةِ اغترار، وطُول التَسويفِ حِيرَة، والاعِتِلال على اللهِ هَلَكَة، والإصرار على الذنبِ ‏أمْنٌ لِمَكر الله، ولا يَأمَنُ مَكرَ الله إِلاّ القوم الخَاسِرُون‎.‎
‏4ـ قال عليه السّلام: مَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَن شَكَرهُ زَادَه، ومن أَقرضَهُ جَزَاه‎. ‎
‏5ـ قال عليه السّلام لأبي بصير: أَما تَحزن؟ أمَا تَهتَم؟ أما تَتَأَلَّم؟ قال: بلى. قال عليه السّلام: إِذَا كان ذلك منكَ، فاذكُرِ ‏المَوتَ وَوِحْدَتَك في قَبرِك، وَسَيَلان عينيكَ عَلى خَدَّيك، وَتَقَطُّعَ أوصالِك، وأكلَ الدُّودِ من لحمِك، وبلاك وانقطاعَكَ عن ‏الدّنيا، فإن ذلك يحثُّك على العَمَل، ويَردَعُك عن كثيرٍ من الحِرصِ عَلى الدّنيا‎.‎
‏6ـ قال عليه السّلام: لَيسَ من أحدٍ وإِن ساعَدَتْهُ الأُمورُ بِمُستَخْلص غضارة عيش إِلاّ من خِلال مكروه، وَمن انتظر ‏بمعاجَلةِ الفرصةِ مُؤَاجَلَة الاستقصاء سَلَبَتْهُ الأيامُ فرصتَهَ، لأنَّ من شأن الأيام السلب، وَسَبيل الزمن الفَوتُ‎.‎
‏7ـ قال عليه السّلام: إِنَّ المُنَافِقَ لا يرغبُ فيما سُعدَ به المؤمنون، فالسعِيد يَتَّعِظُ بموعظة التقوَى، وإِن كانَ يُرادُ ‏بالمَوعِظَةِ غَيره‎.‎
‏8ـ قال عليه السّلام: ليس منّا ولا كرامة من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون، وفيهم من هو أورع منه‎.‎
‏9ـ قال عليه السّلام: أيّما أهل بيت أعطوا حظّهم من الرفق، فقد وسّع الله عليهم في الرزق، والرفق في تقدير المعيشة ‏خير من السعة في المال، والرفق لا يعجز عنه شيء، والتبذير لا يبقى معه شيء، إنّ الله عزّ وجل رفيق يحب الرفق‎.‎
‏10ـ قال عليه السّلام: لرجل: أوصيك إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإنّ يك رشداً فأمضه، وإن يك غيّاً فانته عنه‎.‎
‏11ـ قال عليه السّلام: ليس من عِرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلاّ بذنب، وما يعفو الله أكثر‏‎.‎
‏12ـ قال عليه السّلام: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك، ولم يخف على نفسه ولا على ‏أصحابه‎.‎
‏13ـ قال عليه السّلام: من شهد أمراً فكرهه، كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمر فرضيه، كان كمن شهده‎.‎
‏14ـ قال عليه السّلام: لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه، قيل: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرّض لما لا يطيق‎.‎
‏15ـ قال عليه السّلام: لا يتكلّم الرجل بكلمة حق فيؤخذ بها إلاّ كان له مثل أجر من أخذ بها، ولا يتكلّم بكلمة ضلال ‏يؤخذ بها إلاّ كان عليه مثل وزر من أخذ بها‎.‎
‏16ـ قال عليه السّلام: كونوا دُعاةً إلى أنفُسِكُم بِغَير أَلسِنَتِكُم، وكونوا زَيْناً ولا تكونوا شَيْناً‎.‎
‏17ـ قال عليه السّلام: إِنَّ الله ارتَضَى لَكُم الإسلام ديناً، فَأَحسِنُوا صُحبَتُهُ بالسَّخَاء وَحُسن الخُلق‎. ‎‏18ـ قال عليه السّلام: إذا خالطت النّاس فإن استطعت ألاّ تخالط أحدا منهم إلاّ كانت يدك العليا عليه فافعل، فإنّ العبد ‏يكون فيه بعض التقصير من العبادة، ويكون له حسن الخلق، فيبلغه الله بخلقه درجة الصائم القائم‎. ‎
‏19ـ قال عليه السّلام: تزاوروا، فإنّ في زيارتكم إحياء لقلوبكم، وذكرا لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطف بعضكم على ‏بعض، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإن تركتموها ظللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم‎.‎
‏20ـ قال عليه السّلام: اجعلوا أمركم هذا لله ولا تجعلوه للنّاس، فإنّه ما كان لله فهو لله، وما كان للنّاس فلا يصعد إلى ‏السّماء، ولا تخاصموا بدينكم، فإن المخاصمة ممرضة للقلب، إنّ الله عزّ وجلّ قال لنبيّه صلّى الله عليه وآله: إنّك لا ‏تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء. وقال: أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين‎. ‎
‏21ـ قال عليه السّلام: ذروا النّاس فإن النّاس قد أخذوا عن النّاس، وإنكم أخذتم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وعن ‏عليّ عليه السّلام ولا سواء، وأنّي سمعت أبي يقول: إذا كتب الله على عبد أن يدخله في هذا الأمر كان أسرع إليه من ‏الطير إلى وكره‎. ‎
‏22ـ قال عليه السّلام: الدعاء يردّ القضاء ما أبرم إبراما، فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كلّ رحمة، ونجاح كلّ حاجة، ‏ولا ينال ما عند الله عزّ وجلّ إلا بالدعاء، وأنّه ليس بابا يكثر قرعه إلا ويوشك أن يفتح لصاحبه‎. ‎
‏23ـ قال عليه السّلام: لا تطعنوا في عيوب من أقبل إليكم بمودّته، ولا توقفوه على سيّئة يخضع لها، فإنّها ليست من ‏أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وآله ولا من أخلاق أوليائه‎. ‎
‏24ـ قال عليه السّلام: أحسنوا النّظر فيما لا يسعكم جهله، وانصحوا لأنفسكم، وجاهدوا في طلب ما لا عذر لكم في ‏جهله، فإنّ لدين الله أركانا لا تنفع من جهلها شدّة اجتهاده في طلب ظاهر عبادته، ولا يضرّ من عرفها فدان بها حسن ‏اقتصاده، ولا سبيل إلى أحد إلى ذلك إلا بعون من الله عزّ وجلّ‎. ‎
‏25ـ قال عليه السّلام: إيّاكم وعشرة الملوك وأبناء الدّنيا، ففي ذلك ذهاب دينكم، ويعقّبكم نفاقا، وذلك داء رديّ لا شفاء ‏له، ويورث قساوة القلب، ويسلبكم الخشوع. وعليكم بالإشكال من النّاس والأوساط من النّاس، فعندهم تجدون معادن ‏الجواهر، وإيّاكم أن تمدّوا أطرافكم إلى ما في أيدي أبناء الدّنيا، فمن مدّ طرفه إلى ذلك طال حزنه، ولم يشف غيظه، ‏واستصغر نعمة الله عنده، فيقلّ شكره لله، وانظر إلى من هو دونك فتكون لأنعم الله شاكرا، ولمزيده مستوجبا، ولجوده ‏ساكنا‎. ‎
‏26ـ قال عليه السّلام: إذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخّره، فإنّ الله عزّ وجلّ ربّما اطّلع على العبد وهو على شيء ‏من الطاعة فيقول: وعزّتي وجلالي لا أعذّبك بعدها أبدا. وإذا هممت بسيّئة فلا تعملها فإنّه ربّما اطّلع على العبد وهو ‏على شيء من المعصية فيقول: وعزّتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبدا‎. ‎
‏27ـ قال عليه السّلام لأصحابه: اسمعوا منّي كلاما هو خير من الدهم الموقّفة، لا يتكلم أحدكم بما لا يعنيه، وليدع كثيرا ‏من الكلام فيما يعنيه، حتى يجد له موضعا، فربّ متكلّم في غير موضعه جنى على نفسه بكلامه، ولا يمارينّ أحدكم ‏سفيها ولا حليما، فإنّ من مارى حليما أقصاه، ومن مارى سفيها أرداه، واذكروا أخاكم إذا غاب عنكم بأحسن ما تحبّون ‏أن تذكروا به إذا غبتم، واعملوا عمل من يعلم أنّه مجازى بالإحسان‎. ‎
‏28ـ قال عليه السّلام للمفضّل بن عمر الجعفي: أوصيك بستّ خصال تبلّغهنّ شيعتي. قال: وما هي يا سيّدي؟ فقال ‏عليه السّلام: أداء الأمانة إلى من ائتمنك، وأن ترضى لأخيك ما ترضى لنفسك، واعلم أنّ للأمور أواخر، فاحذر ‏العواقب، وأنّ للأمور بغتات، فكن على حذر، وإيّاك ومرتقى جبل سهل إذا كان المنحدر وعرا، ولا تعدنّ أخاك وعدا ‏ليس في يدك وفاؤه‎.‎

حكمه عليه السلام
1ـ من أعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً، من أعطي الدّعاء أعطي الإجابة، ومن أعطي الشّكر أعطي الزّيادة، ومن أعطي ‏التوكّل أعطي الكفاية‎. ‎
‏2ـ إذا أراد أحدكم ألاّ يسأل الله شيئاً إلا أعطاه فلييأس من النّاس كلّهم، ولا يكون له رجاء إلا عند الله، فإذا علم الله عزّ ‏وجلّ ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه‏‎. ‎
‏3ـ إنّ الله ارتضى لكم الإسلام ديناً، فأحسنوا صحبته بالسّخاء وحسن الخلق‎. ‎
‏4ـ لا تمزح فيذهب نورك، ولا تكذب فيذهب بهاؤك، وإيّاك وخصلتين: الضّجر، والكسل، فإنّك إن ضجرت لا تصبر ‏على حقّ، وإن كسلت لم تؤدّ حقا‎. ‎
‏5ـ اصبروا على الدّنيا فإنّما هي ساعة، فما مضى منها فلا تجد له ألما ولا سرورا، وما لم يجئ فلا تدري ما هو، وإنما ‏هي ساعتك التي أنت فيها، فاصبر فيها على طاعة الله، واصبر فيها عن معصية الله‎. ‎
‏6ـ اجعل قلبك قريبا برّا، وولدا مواصلا، واجعل عملك والدا تتبعه، واجعل نفسك عدوّا تجاهده، واجعل مالك عارية ‏تردّها‎. ‎
‏7ـ إن قدرت ألا تعرف فافعل، ما عليك ألا يثني عليك النّاس، وما عليك أن تكون مذموما عند النّاس إذا كنت محمودا ‏عند الله‎. ‎

خطبه عليه السلام
‏1ـ خطبته عليه السّلام في صفة النّبيّ صلّى الله عليه وآله
قال عليه السّلام:... فلم يمنع ربّنا لحلمه وأناته وعطفه، ما كان من عظيم جرمهم وقبيح أفعالهم، أن انتجب لهم أحبّ ‏أنبيائه إليه، وأكرمهم عليه، مُحمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله، في حومة العزّ مولده، وفي دومة الكرم محتده، غير ‏مشوب حسَبه، ولا ممزوج نسَبه، ولا مجهول عند أهل العلم صفته‏‎.‎
بشّرت به الأنبياء في كتبها، ونطقت به العُلماء بنعتها، وتأمّلته الحكماء بوصفها، مهذّب لا يدانى، هاشمي لا يوازى، ‏أبطحي لا يسامى، شيمته الحياء، وطبيعته السخاء، مجبول على اوقار النبوَّة وأخلاقها، مطبوع على أوصاف الرّسالة ‏وأحلامها، إلى أن انتهت به أسباب مقادير الله إلى أوقاتها، وجرى بأمر الله القضاء فيه إلى نهاياتها، أدّى محتوم قضاء ‏الله إلى غاياتها، يبشّر به كلّ أُمّة من بعدها‎.‎
ويدفعه كلّ أب إلى أب، من ظهر إلى ظهر، لم يخلط في عنصره سفاح، ولم ينجّسه في ولادته نكاح، من لدن آدم إِلى ‏أبيه عبد الله، في خير فرقة، واكرم سبط، وأمنع رهط، وأكلأ حمل، وأودع حجر، اصطفاه الله وارتضاه واجتباه، وآتاه ‏من العلم مفاتيحه، ومن الحِكم ينابيعه، ابتعثه رحمةً للعباد، وربيعاً للبلاد‎.‎
وأنزل الله إليه الكتاب، فيه البيان والتبيان، قرآناً عربيّاً غير ذي عوج لعلّهم يتّقون، قد بيّنه للناس ونهجه بعلم قد ‏فصّله،ودين قد أوضحه، وفرائض قد أوجبها، وحدود حدّها للناس وبيّنها، وأُمور قد كشفها لخلقه وأعلنها، فيها دلالة ‏إلى النجاة، ومعالم تدعو إلى هداة‎.‎
فبلّغ رسول الله صلّى الله عليه وآله ما أُرسل به، وصدع بما أُمر به، وأدَّى ممّا حمّل من أثقال النبوّة، وصبر لربّه، ‏وجاهد في سبيله، ونصح لأُمّته، ودعاهم إلى النجاة، وحثّهم على الذكر، ودلّهم على سبيل الهدى، بمناهج ودواع أسّس ‏للعباد أساسها، ومنازل رفع لهم أعلامها، كي لا يضلّوا من بعده، وكان بهم رؤوفاً رحيماً‎.‎
‏2ـ خطبته عليه السّلام في رد شكوى بني العباس‎.‎
لمّا دخل هشام بن الوليد المدينة أتاه بنو العباس، وشكوا من الإمام الصّادق عليه السّلام، أنّه أخذ تركات ماهر الخصي ‏دوننا، فخطب الإمام الصّادق عليه السّلام، فكان ممّا قال‎:‎
‎ ‎إِنّ الله لمّا بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله كان أبونا أبو طالب المواسي له بنفسه والناصر له، وأبوكم العباس ‏وأبو لهب يكذّبان ويولّيان عليه شياطين الكفر، وأبوكم يبغي له الغوائل، ويقود إليه القبائل في بدر، وكان في أوّل ‏رعيلها، وصاحب خيلها ورجلها، المطعم يومئذٍ، والناصب له الحرب‎. ‎
ثمّ قال: فكان أبوكم طليقنا وعتيقنا، وأسلم كارهاً تحت سيوفنا، ولم يهاجر إِلى الله ورسوله هجرة قط، فقطع الله ولايته ‏منّا، بقوله: الذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء‎.‎
ثمّ قال: مولى لنا مات فخرنا تراثه، إِذ كان مولانا ولأنّا ولد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأُمّنا فاطمة أحرزت ‏ميراثه‎. ‎
‏3ـ خطبته عليه السّلام عند استلامه مهمّة الإمامة‎.‎
لمّا أفضى أمر الله تعالى إلى الإمام الصّادق عليه السّلام، جمع الشيعة وقام فيها خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وذكّرهم ‏بأيّام الله، ثمّ قال عليه السّلام‎:‎
‎ ‎إِنّ الله تعالى أوضح بأئمّة الهدى من أهل بيت نبيّنا عن دينه، وأبلج بهم عن سبيل منهاجه، وفتح بهم عن باطن ينابيع ‏علمه، فمن عرف من أُمّة مُحمّد صلّى الله عليه وآله واجب حقّ إِمامه، وجد طعم حلاوة إِيمانه، وعلم فضل طلاوة ‏إِسلامه ؛ لأنّ الله تعالى نصب الإمام علَماً لخلقه، وجعله حجّة على أهل مواده وعالمه، وألبسه تعالى تاج الوقار، ‏وغشاه من نور الجبّار، يمدّ بسبب من السّماء لا ينقطع عنه مواده، ولا ينال ما عند الله إِلاّ بجهة أسبابه‎.‎
ولا يقبل الله أعمال العباد إِلاّ بمعرفته، فهو عالم بما يرد عليه من ملتبسات الدجى، ومعميات السنن، ومشتبهات الفتن، ‏فلم يزل الله تعالى مختارهم لخلقه، من ولد الحُسين عليه السّلام من عقب كلّ إِمام إِماماً، يصطفيهم لذلك ويجتبيهم، ‏ويرضى بهم لخلقه ويرتضيهم، كلّما مضى منهم إِمام نصب لخلقه من عقبه إِماماً، عَلماً بيّناً، وهادياً نيّراً، وإِماماً قيّماً، ‏وحجّة عالماً، أئمّة من الله يهدون بالحقّ وبه يعدلون، حجج الله ودعاته، ورعاته على خلقه، يدين بهداهم العباد، ‏وتستهلّ بنورهم البلاد، وينمو ببركتهم التلاد‎.‎
جعلهم الله حياة للأنام، ومصابيح للظلام، ومفاتيح للكلام، ودعائم للإسلام، جرت بذلك فيهم مقادير الله على محتومها، ‏فالإمام هو المنتجب المرتضى، والهادي المنتجى، والقائم المرتجى، اصطفاه الله بذلك، واصطنعه على عينه في الذرّ ‏حين ذرأه، وفي البرية حين برأه، ظلاً قبل خلق الخلق نسمة عن يمين عرشه، محبواً بالحكمة في عالم الغيب عنده، ‏اختاره بعلمه، وانتجبه لطهره‎.‎
بقيّة من آدم عليه السّلام، وخيرة من ذرّية نوح، ومصطفى من آل إِبراهيم، وسلالة من إِسماعيل، وصفوة من عترة ‏مُحمّد صلّى الله عليه وآله، لم يزل مرعيّاً بعين الله يحفظه ويكلأه بستره، مطروداً عنه حبائل إِبليس وجنوده، مدفوعاً ‏عنه وقوب الغواسق، ونفوث كلّ فاسق، مصروفاً عنه قوارف السوء، مبرأً من العاهات، معصوماً من الفواحش كلّها، ‏معروفاً بالحلم والبرّ في يفاعه، منسوباً إلى العفاف والعلم والفضل عند انتهائه، مسنداً إليه أمر والده، صامتاً عن ‏المنطق في حياته، فإذا انقضت مدّة والده إلى أن انتهت به مقادير الله إلى مشيّته، وجاءت الإرادة من الله فيه إلى محبّة، ‏وبلغ منتهى مدّة والده صلّى الله عليه وآله، فمضى وصار أمر الله إليه من بعده، وقلّده دينه، وجعله الحجّة على عباده، ‏وقيّمه في بلاده، وأيّده بروحه، وآتاه علمه، وأنبأه فصل بيانه، ونصبه عَلماً لخلقه، وجعله حجّةً على أهل عالمه، ‏وضياءً لأهل دينه، والقيّم على عباده، رضي الله به إِماماً لهم، استودعه سرّه، واستحفظه علمه، واستخبأه حكمته، ‏واسترعاه لدينه، وانتدبه لعظيم أمره، وأحيى به مناهج سبيله، وفرائضه وحدوده‎.‎
فقام بالعدل عند تحيّر أهل الجهل، وتحيير أهل الجدل، بالنور الساطع، والشفاء النافع، بالحقّ الأبلج، والبيان اللائح من ‏كل مخرج، على طريق المنهج الذي مضى عليه الصادقون من آبائه عليهم السّلام، فليس يجهل حقّ هذا العالم إِلاّ ‏شقي، ولا يجحده إِلاّ غوي، ولا يصدّ عنه إِلاّ جريء على الله تعالى‎.‎

كراماته عليه السلام
وللإمام الصّادق عليه السّلام معاجزٌ وكراماتٌ كثيرةٌ، سجَّلَتْها كتبُ التاريخ، ونذكر هنا بعضاً منها‎:‎
الكرامة الاولى
عن هشام بن الحكم: أنّ رجلاً من الجبل أتى أبا عبد الله عليه السّلام، ومعه عشرة آلاف درهم، وقال: اشتر لي بها داراً ‏أنزلها إذا قدمت وعيالي معي، ثمّ مضى إلى مكّة، فلمّا حج وانصرف أنزله الصّادق عليه السّلام في داره، وقال له: ‏اشتريت لك داراً في الفردوس الأعلى، حدّها الأوّل إلى دار رسول الله صلّى الله عليه وآله، والثاني إلى عليّ عليه ‏السّلام، والثالث إلى الحسن عليه السّلام، والرّابع إلى الحُسين عليه السّلام، وكتبت لك هذا الصّك به‎.‎
فقال الرّجل لما سمع ذلك: رضيت، ففرّق الصّادق عليه السّلام تلك الدّراهم على أولاد الحسن والحُسين عليهما السّلام، ‏وانصرف الرّجل، فلمّا وصل إلى المنزل اعتل علّة الموت، فلمّا حضرته الوفاة جمع أهل بيته وحلّفهم أن يجعلوا ‏الصّك معه في قبره، ففعلوا ذلك، فلمّا أصبح وغدوا إلى قبره، وجدوا الصّك على ظهر القبر، وعلى ظهر الصّك ‏مكتوب: وفى لي وليّ الله جعفر بن مُحمّد عليهما السّلام بما وعدني‎. ‎
الكرامة الثّانية
قال صفوان بن يحيى: قال لي العبدي: قالت أهلي لي قد طال عهدنا بالصّادق عليه السّلام، فلو حججنا وجدّدنا به ‏العهد، فقلت لها: والله ما عندي شيء أحج به، فقالت: عندنا كسوة وحلي فبع ذلك، وتجهّز به، ففعلت، فلمّا صرنا بقرب ‏المدينة مرضت مرضاً شديداً حتّى أشرفت على الموت، فلمّا دخلنا المدينة خرجت من عندها، وأنا آيس منها، فأتيت ‏الصّادق عليه السّلام، وعليه ثوبان ممصران، فسلّمت عليه، فأجابني وسألني عنها، فعرّفته خبرها، وقلت: إنّي خرجت ‏وقد أيست منها، فأطرق ملياً، ثمّ قال: يا عبدي أنت حزين بسببها؟، قلت: نعم. قال: لا بأس عليها، فقد دعوت الله لها ‏بالعافية، فارجع إليها، فإنّك تجدها قد فاقت، وهي قاعدة، والخادمة تلقمها الطبرزد، قال: فرجعت إليها مبادراً، فوجدتها ‏قد أفاقت، وهي قاعدة، والخادمة تلقمها الطبرزد، فقلت: ما حالك؟ قالت: قد صبّ الله عليّ العافية صبّاً، وقد اشتهيت ‏هذا السكّر، فقلت: خرجت من عندك آيساً، فسألني الصّادق عليه السّلام عنك، فأخبرته بحالك، فقال: لا بأس عليها، ‏ارجع إليها، فهي تأكل السكّر‎. ‎
قالت: خرجت من عندي وأنا أجود بنفسي، فدخل عليّ رجل عليه ثوبان ممصران، قال: ما لك؟ قلت: أنا ميّتة، وهذا ‏ملك الموت قد جاء لقبض روحي، فقال: يا ملك الموت، قال: لبيك أيها الإمام، قال: ألست أمرت بالسّمع والطّاعة لنا؟ ‏قال: بلى، قال: فإنّي آمرك أن تؤخّر أمرها عشرين سنة، قال: السّمع والطّاعة، قالت: فخرج هو وملك الموت من ‏عندي، فأفقت من ساعتي‎.‎
الكرامة الثّالثة
قال عليّ بن أبي حمزة: حججت مع الصّادق عليه السّلام، فجلسنا في بعض الطّريق تحت نخلة يابسة، فحرّك شفتيه ‏بدعاء لم أفهمه، ثمّ قال: يا نخلة أطعمينا ممّا جعل الله فيك من رزق عباده، قال: فنظرت إلى النخلة وقد تمايلت نحو ‏الصّادق عليه السّلام، وعليها أعذاقها وفيها الرّطب‎.‎
قال: أدن، فسم وكل، فأكلنا منها رطباً أعذب رطب وأطيبه، فإذا نحن بأعرابي يقول: ما رأيت كاليوم سحراً أعظم من ‏هذا؟ فقال الصّادق عليه السّلام: نحن ورثة الأنبياء، ليس فينا ساحر ولا كاهن، بل ندعو الله فيجيب، وإن أحببت أن ‏أدعو الله فيمسخك كلباً تهتدي إلى منزلك، وتدخل عليهم وتبصبص لأهلك فعلت‎.‎
قال الأعرابي بجهله: بلى، فدعا الله فصار كلباً في وقته، ومضى على وجهه، فقال لي الصّادق عليه السّلام: اتبعه، ‏فاتبعته حتّى صار إلى حيّه، فدخل إلى منزله، فجعل يبصبص لأهله وولده، فأخذوا له العصا حتّى أخرجوه، فانصرفت ‏إلى الصّادق عليه السّلام فأخبرته بما كان منه، فبينا نحن في حديثه إذ أقبل حتّى وقف بين يدي الصّادق عليه السّلام، ‏وجعلت دموعه تسيل على خديه، وأقبل يتمرّغ في التراب ويعوي، فرحمه فدعا الله له، فعاد أعرابياً، فقال له الصّادق ‏عليه السّلام: هل آمنت يا أعرابي؟ قال: نعم ألفاً وألفاً‎. ‎
الكرامة الرّابعة
روى أبو الصلت الهروي عن الإمام الرضا عليه السّلام أنّه قال: قال لي أبي موسى عليه السّلام: كنت جالساً عند أبي ‏عليه السّلام، إذ دخل عليه بعض أوليائنا، فقال: بالباب ركب كثير يريدون الدّخول عليك، فقال لي: أنظر من بالباب؟ ‏فنظرت إلى جمال كثيرة عليها صناديق، ورجل راكب فرساً، فقلت من الرّجل؟‎.‎
فقال: رجل من السّند والهند أردت الإمام جعفر بن مُحمّد عليهما السّلام، فأعلمت والدي بذلك، فقال: لا تأذن للنّجس ‏الخائن، فأقام بالباب مدّة مديدة، فلا يؤذن له حتّى شفع يزيد بن سليمان، ومحمّد بن سليمان، فأذن له، فدخل الهندي ‏وجثا بين يديه، فقال: أصلح الله الإمام أنا رجل من بلد الهند، من قبل ملكها بعثني إليك بكتاب مختوم، ولي بالباب حول ‏لم تأذن لي فما ذنبي؟ أهكذا يفعل الأنبياء؟ قال: فطأطأ رأسه، ثمّ قال: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ، وليس مثلك من يطأ ‏مجالس الأنبياء‎.‎
قال موسى عليه السّلام: فأمرني أبي بأخذ الكتاب وفكّه، فكان فيه: بسم الله الرّحمن الرّحيم إلى جعفر بن مُحمّد الصّادق ‏الطّاهر من كُلّ نجس من ملك الهند، أمّا بعد‎:‎
فقد هداني الله على يديك، وإنّه أهدي إليّ جارية لم أر أحسن منها، ولم أجد أحداً يستأهلها غيرك، فبعثتها إليك مع شيء ‏من الحلي والجواهر والطّيب، ثمّ جمعت وزرائي فاخترت منهم ألف رجل يصلحون للأمانة، واخترت من الألف مئة، ‏واخترت من المئة عشرة، واخترت من العشرة واحداً، وهو ميزاب بن حباب، لم أر أوثق منه، فبعثت على يده هذه ‏الجارية والهدية‎.‎
فقال جعفر عليه السّلام: ارجع أيها الخائن، ما كنت بالذي أقبلها، لأنّك خائن فيما أؤتمنت عليه، فحلف أنّه ما خان، ‏فقال عليه السّلام: إن شهد عليك بعض ثيابك بما خنت تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه ‏وآله؟ قال: أو تعفيني من ذلك، قال: اكتب إلى صاحبك بما فعلت‎. ‎
قال الهندي: إن علمت شيئاً فأكتب، وكان عليه فروة، فأمره بخلعها، ثمّ قام الإمام، فركع ركعتين، ثمّ سجد، قال موسى ‏عليه السّلام: فسمعته في سجوده يقول: اللهم إنّي أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرّحمة من كتابك، أن تصلّي ‏على مُحمّد عبدك ورسولك، وأمينك في خلقك وآله، وأن تأذن لفرو هذا الهندي أن يتكلّم بلسان عربي مُبين يسمعه من ‏في المجلس من أوليائنا، ليكون ذلك عندهم آية من آيات أهل البيت، فيزدادوا إيماناً مع إيمانهم‎.‎
ثمّ رفع رأسه، فقال: أيّها الفرو تكلّم بما تعلم من هذا الهندي، قال موسى عليه السّلام: فانتفضت الفروة وصارت ‏كالكبش، وقالت: يا ابن رسول الله ائتمنه الملك على هذه الجارية وما معها، وأوصاه بحفظها حتّى صرنا إلى بعض ‏الصّحاري أصابنا المطر، وابتل جميع ما معنا، ثمّ احتبس المطر وطلعت الشّمس، فنادى خادماً كان مع الجارية ‏يخدمها، يقال له: بشر، وقال له: لو دخلت هذه المدينة فأتيتنا بما فيها من الطّعام، ودفع إليه دراهم، ودخل الخادم ‏المدينة، فأمر الميزاب هذه الجارية أن تخرج من قبّتها إلى مضرب، قد نصب لها في الشّمس فخرجت، وكشفت عن ‏ساقيها، إذ كان في الأرض وحل، ونظر هذا الخائن إليها فراودها عن نفسها، فأجابته وفجر بها وخانك‎.‎
فخرّ الهندي على الأرض، فقال: ارحمني فقد أخطأت وأقرّ بذلك، ثمّ صار فروة كما كانت، وأمره أن يلبسها، فلمّا ‏لبسها انضمت في حلقه وخنقته حتّى أسود وجهه، فقال الصّادق عليه السّلام: أيها الفرو خل عنه حتّى يرجع إلى ‏صاحبه، فيكون هو أولى به منّا، فانحل الفرو، وقال عليه السّلام: خذ هديتك وارجع إلى صاحبك‎.‎
فقال الهندي: الله الله يا مولاي فيّ، فإنّك إن رددت الهدية خشيت أن ينكر ذلك عليّ، فإنّه شديد العقوبة، فقال: أسلم ‏أعطك الجارية، فأبى، فقبل الهدية وردّ الجارية، فلمّا رجع إلى الملك، رجع الجواب إلى أبي بعد أشهر فيه مكتوب: ‏بسم الله الرّحمن الرّحيم إلى جعفر بن مُحمّد الإمام عليه السّلام من ملك الهند، أمّا بعد‎:‎
فقد كنت أهديت إليك جارية، فقبلت منّي ما لا قيمة له، ورددت الجارية، فأنكر ذلك قلبي، وعلمت أنّ الأنبياء وأولاد ‏الأنبياء معهم فراسة، فنظرت إلى الرّسول بعين الخيانة، فاخترعت كتاباً وأعلمته أنّه جاءني منك بخيانة، وحلفت أنّه ‏لا ينجيه إلاّ الصّدق، فأقرّ بما فعل، وأقرّت الجارية بمثل ذلك، وأخبرت بما كان من أمر الفرو، فتعجّبت من ذلك، ‏وضربت عنقها وعنقه، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأن محمّداً عبده ورسوله، واعلم أنّي واصل ‏على أثر الكتاب، فما أقام إلاّ مدّة يسيرة حتّى ترك ملك الهند وأسلم، وحسن إسلامه‎. ‎
الكرامة الخامسة
إنّ حماد بن عيسى سأل الإمام الصّادق عليه السّلام أن يدعو له ليرزقه الله ما يحج به كثيراً، وأن يرزقه ضياعاً ‏حسنة، وداراً حسناً، وزوجة من أهل البيوتات صالحة، وأولاداً أبراراً، فقال الإمام الصّادق عليه السّلام: اللهم ارزق ‏حماد بن عيسى ما يحج به خمسين حجّة، وارزقه ضياعاً حسنة، وداراً حسناً، وزوجة صالحة من قوم كرام، وأولاداً ‏أبراراً‎. ‎
قال بعض من حضره: دخلت بعد سنين على حماد بن عيسى في داره بالبصرة، فقال لي: أتذكر دعاء الصّادق عليه ‏السّلام لي؟ قلت: نعم، قال: هذه داري، وليس في البلد مثلها، وضياعي أحسن الضّياع، وزوجتي من تعرفها من كرام ‏النّاس، وأولادي هم من تعرفهم من الأبرار، وقد حججت ثمانية وأربعين حجّة‎. ‎
قال: فحجّ حماد حجّتين بعد ذلك، فلمّا خرج في الحجّة الحادية والخمسين، ووصل إلى الجحفة، وأراد أن يحرم دخل ‏وادياً ليغتسل، فأخذه السّيل ومر به، فتبعه غلمانه فأخرجوه من الماء ميّتاً، فسمّي حماد غريق الجحفة‎. ‎
الكرامة السادسة
عن أبي الصامت الحلاوني، قال: قلت للصّادق عليه السّلام: أعطني شيئاً ينفي الشّك عن قلبي؟ قال الإمام الصّادق ‏عليه السّلام: هات المفتاح الذي في كمّك، فناولته، فإذا المفتاح شبّه أسد فخفت، قال: خذ ولا تخف، فأخذته، فعاد مفتاحاً ‏كما كان‎.‎
الكرامة السابعة
عن المفضّل بن عمر، قال: كنت أمشي مع أبي عبد الله جعفر عليه السّلام بمكّة، إذ مررنا بإمرأة بين يديها بقرة ميّتة، ‏وهي مع صبية لها تبكيان، فقال عليه السّلام لها: ما شأنك؟‎.‎
قالت: كنت أنا وصبياني نعيش من هذه البقرة، وقد ماتت، لقد تحيّرت في أمري، قال عليه السّلام: أفتحبين أن يحييها ‏الله لك؟ قالت: أو تسخر منّي مع مصيبتي؟‎ ‎
قال: كلا، ما أردت ذلك، ثمّ دعا بدعاء، ثمّ ركضها برجله، وصاح بها، فقامت البقرة مسرعة سوية، فقالت: عيسى بن ‏مريم وربّ الكعبة، فدخل الصّادق عليه السّلام بين النّاس، فلم تعرفه المرأة‎. ‎
الكرامة الثامنة
قال يونس بن ظبيان: كنت عند الصّادق عليه السّلام مع جماعة، فقلت: قول الله تعالى لإبراهيم: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ ‏فَصُرْهُنَّ، أو كانت أربعة من أجناس مختلفة؟ أو من جنس واحد؟ فقال: أتحبّون أن أريكم مثله؟ قُلنا: بلى، قال: يا ‏طاووس، فإذا طاووس طار إلى حضرته، ثمّ قال: يا غراب، فإذا غراب بين يديه، ثمّ قال: يا بازي، فإذا بازي بين ‏يديه، ثمّ قال: يا حمامة، فإذا حمامة بين يديه‎.‎
ثمّ أمر بذبحها كلّها وتقطيعها، ونتف ريشها، وأن يخلط ذلك كلّه بعضه ببعض، ثمّ أخذ برأس الطّاووس فقال: يا ‏طاووس، فرأينا لحمه وعظامه وريشه يتميّز من غيره حتّى التزق ذلك كلّه برأسه، وقام الطّاووس بين يديه حيّاً، ثمّ ‏صاح بالغراب كذلك، وبالبازي والحمامة مثل ذلك، فقامت كلّها أحياء بين يديه‎. ‎
إعلامه عما في النّفوس‎ ‎
إِنّ نفس المؤمن إذا زكت من درن الرذائل تكون كالمرآة الصافية، ينطبع فيها كل ما يكون أمامها، ولذا قال رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله: اتَّقوا فَراسَةِ المُؤمن، فإنهُ ينظرُ بنورِ الله. هذا شأن المؤمن فكيف بالمعصوم عليه السّلام؟
وهذا الخضر عليه السّلام أعاب السفينة، وأقام الجدار، وقتل الغلام، وما كان ذلك منه إِلا علماً منحه به العليم سبحانه‎.‎
فلا عجب إِذن لو أعلم الإمام الصّادق عليه السّلام عن أشياء تتلجلج في النفوس عند إِظهار الكرامة‎.‎
فقد دخل عمر بن يزيد على الإمام الصّادق عليه السّلام وهو وجع، وقد ولاه ظهره ووجهه للحائط، وقد قال عمر في ‏نفسه: ما أدري ما يصيبه في مرضه لو سألته عن الإمام بعده‎.‎
فبينا يفكر في ذلك إِذ حوَّل عليه السّلام إليه وجهه، فقال: الأمر ليس كما تظنُّ، ليس عليّ من وجعي هذا بأس‎.‎
ودخل عليه الحسن بن موسى الحنَّاط، وجميل بن دَرَّاج، وعائذ الأحمسي، وكان عائذ يقول: إِن لي حاجة أريد أن ‏أسأله عنها‎.‎
فلما سلّموا وجلسوا أقبل بوجهه على عائذ فقال عليه السّلام: من أتى الله بما افترض عليه لم يسأله عما سوى ذلك‎.‎
فغمزهم فقاموا، فلمّا خرجوا قالوا له: ما كانت حاجتك؟
قال: الذي سمعتم، لأني رجل لا أطيق القيام بالليل، فخفت أن أكون مأخوذاً به فأهلك‎.‎
ودخل عليه شهاب بن عبد ربه وهو يريد أن يسأله عن الجنب يغرف الماء من الحِبِّ؟‏
فلما صار عنده أنسي المسألة، فنظر إليه عليه السّلام فقال: يا شهاب، لا بأس أن يغرف الجنب من الحِبِّ‎.‎
وكان جعفر بن هارون الزَيَّات يطوف بالكعبة، والإمام عليه السّلام في الطواف، فنظر إليه الزَيَّات وحدَّثَتْهُ نفسه فقال: ‏هذا حجة الله، وهذا الذي لا يقبل الله شيئاً إِلا بمعرفته‎.‎
فبينا هو في هذا التفكير إِذ جاءه عليه السّلام من خلفه، فضرب بيده على منكبه ثم قال: أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتبَعُهُ إِنَّا إِذَن ‏لَفِي ضَلالٍ وَسُعُر‎. ‎ القمر: 24.
ثم جازه‎.‎ ودخل عليه خالد بن نجيح الجواز وعنده ناس، فقنع رأسه وجلس ناحية وقال في نفسه: ويحَكم ما أغفلكم عند مَن ‏تتكلمون، عند رب العالمين، فناداه عليه السّلام: ويحَك يا خالد، إِني والله عبد مخلوق ولي رب أعبده، إِن لم أعبده والله ‏عذّبني بالنار‎.‎
فقال خالد: لا والله، لا أقول فيك أبداً إِلا قولك في نفسك‎.‎

كرمه وجوده عليه السلام
لقد كان الإمام الصّادق عليه السّلام جواداً من أندى النّاس كفاً، وكان يجود بما عنده لإنعاش الفقراء والمحرومين، وقد ‏نقل الرواة بوادر كثيرة من كرمه، كان من بينها ما يلي‎:‎
دخل عليه أشجع السلمي فوجده عليلا، وبادر أشجع فسأل عن سبب علته، فقال عليه السّلام: تعدّ عن العلة، واذكر ما ‏جئت له فقال‎:‎
يخـرج من جسمـك السقـام كما أخرج ذل السؤال من عنقك
وعرف الإمام حاجته فقال لغلامه: أي شيء معك؟ فقال: أربعمائة. فأمره بإعطائها له‎.‎
ودخل عليه المفضل بن رمانة وكان من ثقاة أصحابه ورواته فشكا إليه ضعف حاله، وسأله الدعاء، فقال عليه السّلام ‏لجاريته: هاتِ الكيس الذي وصلنا به أبو جعفر، فجاءته به، فقال له: هذا كيس فيه أربعمائة دينار فاستعن به، فقال ‏المفضل: لا والله جُعلت فداك ما أردت هذا، ولكن أردت الدعاء، فقال عليه السّلام: لا أدع الدعاء لك‎.‎
سأله فقير فأعطاه أربعمائة درهم، فأخذها الفقير، وذهب شاكراً، فقال عليه السّلام لخادمه: ارجعه، فقال الخادم: سئلت ‏فأعطيت، فماذا بعد العطاء؟ قال عليه السّلام: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "خير الصدقة ما أبقت غنى"، وإنّا ‏لم نغنه، فخذ هذا الخاتم فاعطه فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم، فإذا احتاج فليبعه بهذه القيمة‎.‎
ومن بوادر جوده وسخائه وحبه للبر والمعروف أنه كانت له ضيعة قرب المدينة تسمى رعين زياد، فيها نخل كثير، ‏فإذا نضج التمر أمر الوكلاء أن يثلموا في حيطانها الثلم، ليدخل النّاس ويأكلوا من التمر‎.‎
وكان يأمر لجيران الضيعة الذين لا يقدرون على المجي كالشيخ والعجوز والمريض لكل واحد منهم بمدّ من التمر، ‏وما بقي منهم يأمر بحمله إلى المدينة فيفرّق أكثره على الضعفاء والمستحقين، وكانت قيمة التمر الذي تنتجه الضيعة ‏أربعة آلاف دينار، فكان ينفق ثلاثة آلاف منها، ويبقى له ألف‎.‎
ومن بوادر كرمه أنه كان يطعم ويكسو حتَّى لم يبق لعياله شيء من كسوة أو طعام‎.‎
ومن كرمه أنه مرّ به رجل، وكان عليه السّلام يتغدّى، فلم يسلّم الرجل فدعاه الإمام إلى تناول الطعام، فأنكر عليه ‏بعض الحاضرين، وقال له: السنة أن يسلم ثم يُدعى، وقد ترك السّلام على عمد... فقابله الإمام عليه السّلام ببسمات ‏مليئة بالبشر وقال له: هذا فقه عراقي، فيه بخل‎....‎


صدقاته في السر‎
كان الإمام الصّادق يقوم في غلس الليل البهيم فيأخذ جراباً فيه الخبز واللحم والدراهم فيحمله على عاتقه ويذهب به إلى ‏أهل الحاجة من فقراء المدينة فيقسمه فيهم، وهم لا يعرفونه، وما عرفوه حتَّى مضى إلى الله تعالى فافتقدوا تلك ‏الصلات فعلموا أنها منه. ومن صدقاته السرية ما رواه إسماعيل بن جابر قائلاً: أعطاني أبو عبد الله السّلام خمسين ‏ديناراً في صرة، وقال لي: ادفعها إلى شخص من بني هاشم، ولا تعلمه أني أعطيتك شيئاً، فأتيته ودفعتها إليه فقال لي: ‏من أين هذه؟ فأخبرته أنها من شخص لا يقبل أن تعرفه، فقال العلوي: ما يزال هذا الرجل كل حين يبعث بمثل هذا ‏المال، فنعيش بها إلى قابل، ولكن لا يصلني جعفر بدرهم مع كثرة ماله‎. ‎
تكريمه للضيوف‏‎ ‎
ومن بوادر كرمه وسخائه حبه للضيوف وتكريمه لهم، وقد كان يشرف على خدمة ضيوفه بنفسه، كما كان يأتيهم ‏بأشهى الطعام وألذّه، وأوفره، ويكرر عليهم القول وقت الأكل: "أشدكم حبّاً لنا أكثركم أكلا عندنا...". وكان يأمر في ‏كل يوم بوضع عشر ثبنات من الطعام يتغدى على كل ثبنة عشرة‎.‎
تواضعه عليه السّلام
ومن مظاهر شخصيته العظيمة نكرانه للذات وحبه للتواضع وهو سيد المسلمين، وإمام الملايين، وكان من تواضعه ‏أنه كان يجلس على الحصير، ويرفض الجلوس على الفرش الفاخرة، وكان ينكر ويشجب المتكبرين وحتّى قال ذات ‏مرة لرجل من إحدى القبائل: "من سيد هذه القبيلة؟ فبادر الرجل قائلا: أنا، فأنكر الإمام عليه السّلام ذلك، وقال له: لو ‏كنت سيدهم ما قلت: أنا..". ومن مصاديق تواضعه ونكرانه للذات: أن رجلا من السواد كان يلازمه، فافتقده فسأل ‏عنه، فبادر الرجل فقال مستهيناً بمن سأل عنه: إنه نبطي... فردّ عليه الإمام قائلا: أصل الرجل عقله، وحسبه دينه، ‏وكرمه تقواه، والناس في آدم مستوون... فاستحيى الرجل‎.‎
سمو أخلاقه عليه السّلام‎.‎
كان الإمام الصّادق عليه السّلام على جانب كبير من سمو الأخلاق، فقد ملك القلوب، وجذب العواطف بهذه الظاهرة ‏الكريمة التي كانت امتداداً لأخلاق جده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الذي سما على سائر النبيين بمعالي ‏أخلاقه. وكان من مكارم أخلاق الإمام وسمو ذاته أنه كان يحسن إلى كل من أساء إليه، وقد روي أن رجلا من الحجاج ‏توهم أن هميانه قد ضاع منه، فخرج يفتش عنه فرأى الإمام الصّادق عليه السّلام يصلي في الجامع النبوي فتعلق به، ‏ولم يعرفه، وقال له: أنت أخذت همياني..؟. فقال له الإمام بعطف ورفق: ما كان فيه؟.. قال: ألف دينار، فأعطاه الإمام ‏ألف دينار، ومضى الرجل إلى مكانه فوجد هميانه فعاد إلى الإمام معتذراً منه، ومعه المال فأبى الإمام قبوله وقال له: ‏شيء خرج من يدي فلا يعود إلي. فبهر الرجل وسأل عنه، فقيل له: هذا جعفر الصّادق، وراح الرجل يقول بإعجاب: ‏لا جرم هذا فعال أمثاله. إن شرف الإمام عليه السّلام الذي لا حدود له هو الذي دفعه إلى تصديق الرجل ودفع المال ‏له. وقال عليه السّلام: إنا أهل بيت مروءتنا العفو عمن ظلمنا. وكان يفيض بأخلاقه الندية على حضار مجلسه حتَّى قال ‏رجل من العامة: والله ما رأيت مجلساً أنبل من مجالسته. عن أخي حماد البشير قال كنت عند عبد الله بن الحسن وعنده ‏أخوة الحسن بن الحسن فذكرنا أبا عبد الله عليه السّلام فنال منه، فقمت من ذلك المجلس فأتيت أبا عبد الله عليه السّلام ‏ليلاً فدخلت عليه وهو في فراشه... فخبرته بالمجلس الذي كنا فيه وما يقول حسن. فقال يا جارية: ضعي لي ماء فأتى ‏به فتوضأ وقام في مسجد بيته، فصلى ركعتين ثم قال: يا رب إن فلاناً أتاني بالذي أتاني عن الحسن وهو يظلمني وقد ‏غفرت له، فلم يزل يلح في الدعاء على ربه ثم التفت إليّ فقال: أنصرف رحمك الله ثم زاره بعد ذلك. عن الزمخشري، ‏في ربيع الأبرار عن الشقراني مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: خرج العطاء أيام المنصور وما لي شفيع ‏فوقفت على الباب متحيراً وإذا بجعفر بن مُحمّد قد أقبل فذكرت له حاجتي فدخل وخرج وإذا بعطائي في كمه، فناولني ‏إياه، وقال: إن الحسن من كل أحد حسن وإنه منك أحسن لمكانك منا، وإن القبيح من كل أحد قبيح وإنه منك أقبح، ‏لمكانك منا: قال سبط بن الجوزي: وإنما قال له ذلك لأنه كان يشرب الشراب فوعظه على وجه التعريض وهذا من ‏أخلاق الأنبياء‎.‎

صبره عليه السلام
ومن الصفات البارزة في الإمام عليه السّلام الصبر وعدم الجزع على ما كان يلاقيه من عظيم المحن والخطوب، ومن ‏مظاهر صبره أنه لما توفي ولده إسماعيل الذي كان ملأ العين في أدبه وعلمه وفضله دعا عليه السّلام جمعاً من ‏أصحابه فقدّم لهم مائدة جعل فيها أفخر الأطعمة وأطيب الألوان، ولما فرغوا من تناول الطعام سأله بعض أصحابه، ‏فقال له: يا سيدي لا أرى عليك أثراً من آثار الحزن على ولدك؟ فأجابه عليه السّلام: وما لي لا أكون كما ترون، وقد ‏جاء في خبر أصدق الصادقين يعني جده رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه إني ميت وإياكم‎.‎

قصار كلامه عليه السلام
من قصار كلامه عليه السلام‎:‎
‎- ‎حجة الله على العباد النّبيّ صلّى الله عليه و آله، والحجة فيما بين العباد و بين الله العقل‎. ‎
‎- ‎إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر خلقان من خلق الله, فمن نصرهما نصره الله ومن خذلهما خذله الله‎. ‎
‎- ‎لا تسخطوا الله برضى أحد من خلقه, ولا تتقربوا الى النّاس بتباعد من الله‎. ‎
‎- ‎أحب اخواني اليّ من أهدى إليّ عيوبي‎. ‎
‎- ‎إنّما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عالم بما يأمر عالم بما ينهى, عادل فيما يأمر ‏عادل فيما ينهى, رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى‎. ‎
‎- ‎الرغبة في الدّنيا تورث الغم والحزن, والزهد في الدّنيا راحة القلب والبدن‎. ‎
‎- ‎طلب الحوائج الى النّاس استلاب العز و مذهبة للحياء‎. ‎
‎- ‎من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم‎. ‎
‎- ‎من انصف النّاس من نفسه رُضي به حكما لغيره‎. ‎
‎- ‎إن روح المؤمن لأشد اتصالا بروح الله من اتصال شعاع الشّمس بها‎. ‎
‎- ‎حسن الخلق من الدّين وهو يزيد في الرزق‎. ‎
‎- ‎من عمل لغير الله وكله الله الى من عمل له‎. ‎
‎- ‎يابن آدم كن كيف شئت, كما تدين تدان‎. ‎
‎- ‎ثلاث علامات المؤمن: علمه بالله ومن يحب ومن يبغض‎. ‎
‎- ‎الدّنيا سجن المؤمن فأي سجن جاء منه خير‎. ‎
‎- ‎المؤمنة أعز من المؤمن، والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر‎. ‎
‎- ‎من سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن‎. ‎
‎- ‎من طلب الرئاسة هلك‎. ‎
‎- ‎إنّ الذّنب يحرم العبد الرّزق‎. ‎
‎- ‎الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض‎. ‎
‎- ‎هل الإيمان إلاّ الحبّ والبغض؟‎ ‎
‎- ‎الغضب مفتاح كل شر‎. ‎

شعره عليه السلام
تـعصي الإلـه وأنت تظهر‎ ii‎حبه هـذا لـعمرك فـي الـفعال‎ ii‎بديع
لـو كـان حـبك صـادقا‎ ii‎لأطعته إن الـمحب لـمن يـحب‎ ii‎مـطيع
‎***‎
عـلم الـمحجة واضـح لـمريده وأرى القلوب عن المحجة في عمى
ولـقد عـجبت لـهالك و‎ ii‎نـجاته مـوجودة ولـقد عـجبت لمن‎ ii‎نجا
أثـامن بـالنفس الـنفيسة‎ ii‎ربـها فـليس لـها فـي الخلق كلهم‎ ii‎ثمن
بـها يـشتري الجنات إن أنا‎ ii‎بعتها بـشيء سـواها إن ذلـكم‎ ii‎غـبن
إذا ذهـبت نـفسي بـدنيا‎ ii‎أصبتها فـقد ذهبت نفسي وقد ذهب‎ ii‎الثمن
‎***‎
لا الـيسر يـطرقنا يوما‎ ii‎فيبطرنا ولا لأزمـة دهـر نـظهر الجزعا
إن سـرنا الـدهر لم نبهج‎ ii‎لصحته أو سـاءنا الدهر لم نظهر له‎ ii‎الهلعا
مـثل الـنجوم على مضمار‎ ii‎أولنا إذا تـغـيّب نـجم آخـر‎ ii‎طـلعا
‎***‎
اعـمل عـلى مـهل فـإنك‎ ii‎ميت واخـتر لـنفسك أيـها‎ ii‎الإنـسانا
فـكأنما قـد كـان لم يك إذ‎ ii‎مضى وكـأنـما هـو كـائن قـد‎ ii‎كـانا
‎***‎
كـنـا نـجـوما يـستضاء بـنا ولـلبرية نـحن الـيوم‎ ii‎بـرهان
نـحن الـبحور التي فيها‎ ii‎لغائصكم در ثـمـين ويـاقوت‎ ii‎ومـرجان
مـساكن القدس والفردوس‎ ii‎نملكها ونـحن لـلقدس والفردوس‎ ii‎خزان
مـن شـذ عـنا فبرهوت مساكنه ومــن أتـانا فـجنات‎ ii‎وولـدان
‎***‎
إذا مـا طـلبت خـصال الـندى وقـد عـضك الـدهر مـن‎ ii‎جهده
فــلا تـطـلبن إلــى‎ ii‎كـالح أصــاب الـيـسارة مـن‎ ii‎كـده
ولـكـن عـلـيك بـاهل‎ ii‎الـعلى ومـن ورث الـمجد عـن‎ ii‎جـده
فـــذاك إذا جـئـته‎ ii‎طـالـبا سـتـحيي الـيسارة مـن‎ ii‎جـده
‎***‎
ذهـب الوفاء ذهاب أمس‎ ii‎الذاهب والـناس بـين مـخاتل‎ ii‎وموارب
يـفشون بـينهم الـمودة‎ ii‎والـصفا وقـلـوبهم مـحـشوة‎ ii‎بـعقارب
‎***‎
لا تـجـزعن مـن الـمداد‎ ii‎فـإنه عـطر الـرجال وحـلية‎ ii‎الآداب
‎**i*‎
ألـبـسـك الله مـنـه عـافـية فـي نـومك الـمعتري وفي أرقك
تـخرج مـن جـسمك السقام‎ ii‎كما أخـرج ذل الـفعال مـن‎ ii‎عـنقك
‎***‎
فـلا تـجزع وإن أعـسرت‎ ii‎يوما فـقد يـسرت فـي زمـن طويل
ولا تـيـأس فـإن الـيأس‎ ii‎كـفر لـعـل الله يـغـني عـن‎ ii‎قـليل
ولا تـظنن بـربك ظـن‎ ii‎سـوء فــإن الله أولــى‎ ii‎بـالـجميل‎ ‎

مناظراته عليه السلام
مُناظرته عليه السلام مع الهندي
حضر الإمام الصّادق عليه السّلام مجلس المنصور يوماً، وعنده رجل من الهند يقرأ كتب الطب، فجعل عليه السّلام ‏ينصت لقراءته، فلمّا فرغ الهندي قال له: يا أبا عبد الله أتريد ممّا معي شيئاً؟ قال عليه السّلام: لا، فإنّ معي ما هو خير ‏ممّا معك، قال: وما هو؟‎ ‎
قال عليه السّلام: أداوي الحار بالبارد، والبارد بالحار، والرطب باليابس، واليابس بالرطب، وأردّ الأمر كلّه إلى الله ‏عزّ وجل، وأستعمل ممّا قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأعلم أنّ المعدة بيت الداء، وأنّ الحمية هي الدواء، ‏وأعوّد البدن ما اعتاد‎.‎
فقال الهندي: وهل الطبّ إِلاّ هذا؟ فقال عليه السّلام: أفتراني عن كتب الطبّ أخذت؟ قال: نعم، قال عليه السّلام: لا ‏والله، ما أخذت إِلاّ عن الله سبحانه، فأخبرني أنا أعلم بالطبّ أم أنت؟ فقال الهندي: لا، بل أنا، فقال عليه السّلام: فأسألك ‏شيئاً، قال: سل‎.‎
قال عليه السّلام: أخبرني يا هندي: لِمَ كان في الرأس شؤن؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ جعل الشعر عليه من فوقه؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ خلت الجبهة من الشعر؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ كان لها تخطيط وأسارير؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ كان الحاجبان من فوق العينين؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ جعل العينان كاللوزتين؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ جعل الأنف فيما بينهما؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فَلِمَ كان ثقب الأنف في أسفله؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فَلِمَ جعلت الشفّة والشارب من فوق الفم؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فَلِمَ احتدَّ السنّ وعرض الضرس وطال الناب؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ جعلت اللحية للرجال؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ خلت الكفّان من الشعر؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ خلا الظفر والشعر من الحياة؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ كان القلب كحبّ الصنوبر؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ كانت الرئة قطعتين؟ وجعل حركتها في موضعها؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ كانت الكبد حدباء؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ كانت الكلية كحبّ اللوبياء؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ جعل طيّ الركبتين إلى خلف؟ قال: لا أعلم‎.‎
قال عليه السّلام: فلِمَ تخصّرت القدم؟ قال: لا أعلم‎.‎
فقال عليه السّلام: لكنّي أعلم، قال: فأجب‎.‎
قال عليه السّلام: كان في الرأس شؤن لأنّ المجوّف إِذا كان بلا فصل أسرع إليه الصّداع، فإذا جعل ذا فصول كان ‏الصداع منه أبعد، وجعل الشّعر من فوقه لتوصل بوصوله الأدهان إلى الدّماغ، ويخرج بأطرافه البخار منه، ويردّ ‏الحرّ والبرد عليه، وخلت الجبهة من الشعر لأنّها مصبّ النور إلى العينين 000‏
مُناظرته عليه السلام مع أبي العوجاء‎ ‎
دخل ابن أبي العوجاء على الإمام الصّادق عليه السّلام يوماً، فقال: أليس تزعم أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء؟ فقال عليه ‏السّلام: بلى، فقال: أنا أخلق، فقال له عليه السّلام: كيف تخلق؟ فقال: أحدث في الموضع، ثمّ ألبث عنه فيصير دواباً، ‏فكنت أنا الذي خلقتها‎.‎
فقال عليه السّلام: أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه؟ قال: بلى، قال عليه السّلام: فتعرف الذكر من الأنثى؟ وتعرف ‏عمرها؟ فسكت‎.‎
ثمّ أنّ ابن أبي العوجاء عاد إليه في اليوم الثاني، فجلس وهو ساكت لا ينطق، فقال عليه السّلام: كأنّك جئت تعيد بعض ‏ما كنّا فيه، فقال: أردت ذلك يا ابن رسول الله، فقال عليه السّلام: ما أعجب هذا تنكر الله، وتشهد أنّي ابن رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله ! فقال: العادة تحملني على ذلك‎.‎
فقال له عليه السّلام: فما يمنعك من الكلام؟ قال: إِجلال لك ومهابة، ما ينطق لساني بين يديك، فإنّي شاهدت العُلماء، ‏وناظرت المتكلّمين فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك، قال عليه السّلام: يكون ذلك، ولكن أفتح عليك ‏سؤالاً، وأقبل عليه‎.‎
فقال له: أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟، فقال له ابن أبي العوجاء: أنا غير مصنوع، فقال له عليه السّلام: فصف لي ‏لو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون؟ فبقي عبد الكريم مليّاً لا يحير جواباً، وولع بخشبة كانت بين يديه، وهو يقول: ‏طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن، كلّ ذلك من صفة خلقه‎.‎
فقال له عليه السّلام: فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسك مصنوعاً لما تجد في نفسك، ممّا يحدث ‏من هذه الأُمور، فقال له عبد الكريم: سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها‎.‎
فقال له عليه السّلام: هبك علمت أنّك لم تُسأل فيما مضى فما علمك إِنّك لم تُسأل فيما بعد؟ على أنّك يا عبد الكريم ‏نقضت قولك، لأنّك تزعم أنّ الأشياء من الأوّل سواء، فكيف قدّمت وأخّرت؟ يا عبد الكريم: أنزيدك وضوحاً؟ أرأيت ‏لو كان معك كيس فيه جواهر، فقال لك قائل: هل في الكيس دينار، فنفيت كون الدينار في الكيس، فقال لك قائل: صف ‏لي الدينار؟ وكنت غير عالم بصفته، هل لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم؟‎.‎
قال: لا، فقال عليه السّلام: فالعالَم أكبر وأطول وأعرض من الكيس، فلعلّ في العالَم صنعة من حيث لا تعلم، لا تعلم ‏صفة الصنعة من غير الصنعة، فانقطع عبد الكريم، وأجاب إِلى الإِسلام بعض أصحابه، وبقي معه بعض‎.‎
فعاد في اليوم الثالث، فقال: أقلب السؤال، فقال عليه السّلام: سل عمّا شئت، فقال: ما الدليل على حدوث الأجسام؟‎ ‎
فقال: إِنّي ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إِلاّ وإذا ضمّ إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى، ‏ولو كان قديماً ما زال ولا حال، لأنّ الذي يزول ويحول يجوز أن يجود ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في ‏الحدث، وفي كونه في الأُولى دخوله في العدم، ولن يجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد‎.‎
فقال عبد الكريم: هبك علمت في جري الحالين والزمانين على ما ذكرت واستدللت على حدوثها، فلو بقيّت الأشياء ‏على صغرها من أين كان لك أن تستدلّ على حدوثها؟‎ ‎
فقال عليه السّلام: إِنّما نتكلّم على هذا العالَم الموضوع، فلو رفعناه ووضعنا عالماً آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث ‏من رفعنا إِيّاه ووضعنا غيره، ولكن أجبت من حيث قدرت إِنّك تلزمنا وتقول: إِنّ الأشياء لو دامت على صغرها لكان ‏في الوهم أنّه متى ما ضمّ شيء منه إلى مثله كان أكبر، وفي جواز التغيّر عليه خروجه من القدم كما بان في تغيير ‏دخوله في الحدث، ليس وراءه شيء يا عبد الكريم، فانقطع وخزي‎.‎
وناظر الإمام الصّادق عليه السّلام يوماً في تبديل الجلود في النار، فقال: ما تقول في هذه الآية: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ‏بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا، هب هذه الجلود عصت فعذّبت، فما بال الغير يعذّب؟‎ ‎
قال عليه السّلام: ويحَك هي هي، وهي غيرها، قال: اعقلني هذا القول، فقال له عليه السّلام: أرأيت لو أنّ رجلاً عهد ‏إلى لبنة فكسرها، ثمّ صبّ عليها الماء وجبلها، ثم ردّها إلى هيئتها الأولى، ألم تكن هي هي، وهي غيرها؟ فقال: بلى، ‏أمتع الله بك‎.‎
مُناظرته عليه السلام مع زنديق‎ ‎
عن هشام بن الحكم، قال: كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد الله الصّادق عليه السّلام أشياء، فخرج إلى المدينة ‏ليناظره، فلم يصادفه بها، وقيل: إِنّه خارج بمكّة، فخرج إلى مكّة ونحن مع أبي عبد الله عليه السّلام، فصادفنا ونحن ‏في الطواف، وكان اسمه عبد الملك، وكنيته أبو عبد الله‎.‎
فضرب كتفه كتف الإمام عليه السّلام، فقال له: ما اسمك؟ قال: عبد الملك، قال: فما كنيتك؟ قال: أبو عبد الله، فقال عليه ‏السّلام: فمن هذا الملك الذي أنت عبده؟ أمن ملوك الأرض أم ملوك السّماء؟ وأخبرني عن ابنك عبد إِله السّماء أم عبد ‏إِله الأرض؟ قل ما شئت تخصم، فلم يحر جواباً‎.‎
ثمّ أنّ الإمام الصّادق عليه السّلام قال له: إذا فرغت من الطواف فأتنا، فلمّا فرغ عليه السّلام أتاه الزنديق، فقعد بين ‏يديه ونحن مجتمعون عنده عليه السّلام، فقال أبو عبد الله للزنديق: أتعلم أنّ للأرض تحتاً وفوقاً؟‎. ‎
قال: نعم، قال: فدخلت تحتها؟ قال: لا، قال: فما يدريك ما تحتها؟ قال: لا أدري إِلاّ أنّي أظن أن ليس تحتها شيء، فقال ‏عليه السّلام: فالظنّ عجز فلِم لا تستيقن، ثمّ قال عليه السّلام: أفصعدت إلى السّماء؟ قال: لا، قال: أفتدري ما فيها؟ قال: ‏لا‎. ‎
قال: عجباً لك لم تبلغ المشرق، ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل إلى الأرض، ولم تصعد إلى السّماء، ولم تجز هناك ‏فتعرف ما خلفهنّ، وأنت جاحد بما فيهنّ، فهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟، قال الزنديق: ما كلّمني بها أحد غيرك، فقال ‏عليه السّلام: فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو، ولعلّه ليس هو، فقال الزنديق: ولعلّ ذلك‎. ‎
فقال عليه السّلام: أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم، ولا حجّة للجاهل، يا أخا أهل مصر تفهم عنّي، فإنّا ‏لا نشكّ في الله أبداً، أمّا ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان، قد اضطرّا ليس لهما مكان ‏إِلاّ مكانهما، فإنّ كانا يقدران على أن يذهبا فلِم يرجعان؟ وإن كانا غير مضطرّين، فلِم لا يصير الليل نهاراً والنهار ‏ليلاً؟ اضطرّا والله يا أخا أهل مصر إلى دوامهما، والذي اضطرّهما أحكم منهما وأكبر‎.‎
فقال الزنديق: صدقت، ثمّ قال عليه السّلام: يا أخا أهل مصر إِنّ الذي تذهبون إليه وتظنّون أنّه الدهر، إِن كان الدهر ‏يذهب بهم فلِم لا يردّهم؟ وإِن كان يردّهم لِم لا يذهب بهم؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر، لِم السّماء مرفوعة ‏والأرض موضوعة؟ لِم لا تنحدر السّماء على الأرض؟ لِم لا تنحدر الأرض فوق طباقها؟ ولا يتماسكان ولا يتماسك ‏مَن عليها؟‎.‎
قال الزنديق: أمسكهما الله ربّهما سيّدهما، قال: فآمن الزنديق على يدي الإمام عليه السّلام، فقال حمران بن أعين: ‏جعلت فداك إِن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفّار على يد أبيك، فقال المؤمن الذي آمن على يدي الإمام عليه ‏السّلام: اجعلني من تلامذتك‎.‎
فقال عليه السّلام: يا هشام بن الحكم خذه إليك، فعلّمه هشام، وكان معلّم أهل الشام وأهل مصر الإيمان، وحسنت ‏طهارته حتّى رضي بها عليه السّلام‎.‎
مُناظرته عليه السلام مع زنديق آخر‎ ‎
وجاء إلى الإمام الصّادق عليه السّلام زنديق آخر، وسأله عن أشياء نقتطف منها ما يلي: قال له: كيف يعبد الله الخلق ‏ولم يروه؟ قال عليه السّلام: رأته القلوب بنور الإيمان، وأثبتته العقول بيقظتها إِثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما ‏رأته من حسن التركيب وإِحكام التأليف، ثمّ الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العُلماء على ما رأت من ‏عظمته دون رؤيته‎.‎
قال: أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفونه فيُعبد على يقين؟ قال عليه السّلام: ليس للمحال جواب‎.‎
أقول: إِنّما الرؤية تثبت للأجسام، وإِذا لم يكن تعالى جسماً استحالت رؤيته، والمحال غير مقدور لا من جهة النقص في ‏القدرة بل النقص في المقدور‎.‎
قال الزنديق: فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً؟ قال عليه السّلام: إِنّا لمّا أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا، وعن جميع ما ‏خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا أن يلامسوه، ولا أن يباشرهم ويباشروه، ويحاجّهم ‏ويحاجّوه، ثبت أنّ له سفراء في خلقه وعباده، يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم، وفي تركه فناؤهم‎.‎
فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أنّ لهم معبّرين، وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، ‏حكماء مؤدّبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيّدين ‏من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد، من إِحياء الموتى، وإِبراء الأكمة والأبرص‎.‎
ثمّ قال الزنديق: من أيّ شيء خلق الأشياء؟ قال عليه السّلام: من لا شيء، فقال: كيف يجيء شيء من لا شيء؟‎ ‎
قال عليه السّلام: إِنّ الأشياء لا تخلو: إِمّا أن تكون خلقت من شيء، أو من غير شيء، فإن كانت خلقت من شيء كان ‏معه، فإنّ ذلك الشيء قديم، والقديم لا يكون حديثاً، ولا يتغيّر، ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهراً واحداً ولوناً ‏واحداً، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة، والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى؟‎ ‎
ومن أين جاء الموت إِن كان الشيء الذي أُنشئت منه الأشياء حيّاً؟ أو من أين جاءت الحياة إِن كان ذلك الشيء ميّتاً؟ ‏ولا يجوز أن يكون من حيّ وميّت قديمين لم يزالا، لأنّ الحيّ لا يجيء منه ميّت، وهو لم يزل حيّاً، ولا يجوز أيضاً أن ‏يكون الميّت قديماً لم يزل لما هو به من الموت، لأنّ الميّت لا قدرة به ولا بقاء‎.‎
أقول: إِنّ هذا الأمر على دقّته قد أوضحه الإمام بأحسن بيان، وردّده بين أُمور لا يجد العقل سلواها عند الترديد، وحقّاً ‏إِن كان الشيء الذي خلقت الأشياء منه قديماً لزم أن يكون مع الله تعالى شيء قديم غير مخلوق له، ولو فرض أنّه ‏مخلوق له عاد الكلام الأوّل، أنّه من أيّ شيء كان مخلوقاً؟ هذا غير أنّ القديم لا يكون حادثاً، والميّت لا يكون منه ‏الحي، والحي لا يكون منه الميّت، والحياة والممات لا يتركّبان، ولو تركّبا عاد الكلام السابق‎.‎
فإنّ الموت لا يصلح أن يكون في الأشياء الحيّة، ولا بقاء ولا دوام ليكون باقياً إِلى أن خلق الله منه الأشياء الحيّة، فلا ‏بدّ إِذن من أن يكون تعالى قد خلق الأشياء من لا شيء‎.‎
ثمّ قال الزنديق: من أين قالوا: إِنّ الأشياء أزلية؟ قال: عليه السّلام: هذه مقالة قوم جحدوا مدبّر الأشياء فكذّبوا الرسل ‏ومقالتهم، والأنبياء وما أنبأوا عنه، وسمّوا كتبهم أساطير، ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم واستحسانهم، وإِنّ الأشياء ‏تدلّ على حدوثها من دوران الفلك بما فيه، وهي سبعة أفلاك، وتحرّك الأرض ومن عليها، وانقلاب الأزمنة، ‏واختلاف الحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان، وموت وبلى، واضطرار الأنفس إلى الإقرار بأنّ لها ‏صانعاً ومدبّراً، ألا ترى الحلو يصير حامضاً، والعذاب مرّاً، والجديد بالياً، وكلّ إلى تغيّر وفناء‎.‎
أقول: إِنّ الاستدلال بانقلاب الأزمنة ودوران الفلك من أدقّ الأدلّة العلمية على حدوث العالم، الذي قصرت عنه إفهام ‏كثير من الفلاسفة العظام، كما أنّه جعل الفلك الدائر فلكاً واحداً، ثمّ تفسيره بالأفلاك السبعة، لا ينطبق إِلاّ على نظرية ‏الهيئة الحديثة، إِذ يراد به النظام الشمسي، ومثله تصريحه بحركة الأرض التي لم يكن يحلم بها أحد من السابقين، ‏وهي من مكتشفات العلم الحديث‎.‎

مدرسته عليه السلام
الإمام الصّادق عليه السّلام هو استاذ العُلماء وامام الفقهاء وهو امام عصره كما هو امام العصور واستاذ الاجيال. و قد ‏انصرف هو وابوه الباقر عليه السّلام لانشاء مدرسة أهل البيت العلمية في مسجد رسول الله صلي الله عليه و آله في ‏المدينة المنورة, ثم استمر في تنمية هذه الجامعة العلمية ومواصلة حماية الشريعة, والدفاع عن عقيدة التوحيد بعد ابيه ‏الباقر عليه السّلام, وقد تخرج على يده جيل من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والفلاسفة وعلماء الطبيعة...الخ ذكرتهم ‏كتب الرجال وملأت آثارهم آفاق العلم والمعرفة فبهدي الإمام الصّادق عليه السّلام وهدي آبائه الكرام وابنائه من بعده ‏من أهل بيت النبوة اهتدى المسلمون وشخصوا جادة الصواب الدالة على الشريعة ونقائها. وقد نشأت في عهد الإمام ‏الصّادق عليه السّلام فرق ومذاهب فقهية واعتقادية كثيرة, كان موقف الإمام الصّادق عليه السّلام منها هو التسديد ‏والحوار العلمي والنقد الشرعي النزيه. والذي يتابع منهج الإمام, ومهمته العملية يكتشف ان الإمام كان يستهدف بعمله ‏ومدرسته الاهداف الاتية‎:‎
اولاً: حماية العقيدة من التيارات العقائدية والفلسفية والالحادية والمقولات التي لا تنسجم وعقيدة التوحيد التي نشأت ‏كتيار كونته الفرق الكلامية والمدارس الفلسفية الشاذة, لذا انصبت جهود الإمام عليه السّلام على الحفاظ على اصالة ‏عقيدة التوحيد ونقاء مفهومها, وايضاح جزئياتها وتفسير مضامينها وتصحيح الافكار والمعتقدات في ضوئها ولذا فقد ‏درب تلامذته امثال هشام بن الحكم على الكلام والجدل والمناظرة والفلسفة ليقوموا بالدفاع عن عقيدة التوحيد وحمايتها ‏من المعتقدات الضالة, كما الجبر والتفويض والتجسيم والغلو وامثالها من الاراء والمعتقدات الشاذة عن عقيدة التوحيد‎.‎
ثانياً: نشر الإسلام اما الهدف الثاني لمدرسة الإمام جعفر بن مُحمّد الصّادق عليه السّلام وجهوده فهو نشر الإسلام ‏وتوسيع دائرة الفقه والتشريع, وتثبيت معالمها وحفظ اصالتها, إذ لم يُرو عن احدٍ من الحديث ولم يُؤخذ عن امام من ‏الفقه والاحكام ما أًخذا عنه, اساسا وقاعدة لاستنباط الاحكام لدى العُلماء والفقهاء والسائرين على نهجه والملتزمين ‏بمدرسته والمنتسبين الى مذهبه الذي سُمي باسمه المذهب الجعفري‎. ‎
فربّى جيلاً عالماً انتشر في أنحاء البلاد، يبث حقائقَ الدّين، ويُبيِّن معالمه‎.‎
وقد أجمع العُلماء، مثل: الشيخ المفيد، والشيخ الطبرسي، والفتَّال النيسابوري، والشهيد الثاني، وابن شهر آشوب ‏وغيرهم، أنّه نُقل عن الإمام الصّادق عليه السّلام من العلوم ما لم يُنقَل عن أحد‎.‎
حتى أن أصحاب الحديث جمعوا أسماء الرواة الذين رووا عن الإمام الصّادق عليه السّلام - على اختلاف آرائهم -، ‏فكانوا أربعةَ آلاف راوٍ‎.‎
وهكذا كانت جهوده المباركة عليه السّلام جهاداً علميّاً كبيراً، أرسى من خلاله قواعدَ الدّين، وثبَّت أصوله، وفروعه، ‏وعقائده‎.‎
واليوم، وبعد مُضِيِّ ما يقرب من ثلاثة عشر قرناً على تأسيس مدرسة الإمام الصّادق عليه السّلام لا تزال العلوم ‏الإسلاميّة، من: فقهٍ، أو حديثٍ، أو تفسير، أو فلسفة، أو أخلاق، وغيرها من العلوم الإسلاميّة، عيالاً على مدرسة ‏الإمام جعفر الصّادق عليه السّلام‎.‎

تلامذته عليه السلام
لقد تتلمذ على يد الإمام الصّادق عليه السّلام علماء عليهم الاعتماد والمعول في أمر الدّين فكانوا جهابذة العلم وافذاذ قلَّ ‏نظيرهم فحملوا العلم ممزوجاً بالعمل والتقوى وخدموا دينهم خدمة جليلة تشهد بها الكتب الى اليوم. يقول هشام بن ‏سالم: كنا عند أبي عبدالله عليه السّلام جماعة من أصحابه فورد رجل من أهل الشام فاستأذن بالجلوس فأذن له، فلما ‏دخل سّلم فأمره ابو عبدالله عليه السّلام بالجلوس ثم قال له: ماحاجتك أيها الرجل؟ قال: بلغني أنك عالم بكل ما تسأل ‏عنه فصرت اليك لأناظرك، فقال ابو عبدالله عليه السّلام: في ماذا؟ قال: في القُرآن، فقال ابو عبدالله عليه السّلام: يا ‏حمران بن أعين دونك الرجل، فقال الرجل: انما اريدك انت لا حمران. فقال ابو عبدالله عليه السّلام: إن غلبت حمران ‏فقد غلبتني فأقبل الشامي يسأل حمران حتى ضجر وملّ وحمران يجيبه، فقال ابو عبدالله عليه السّلام كيف رأيت يا ‏شامي؟ قال: رأيته حاذقاً ما سألته عن شيء إلا أجابني، ثم قال الشامي: اريد ان اناظرك في العربية، فالتفت ابو عبدالله ‏عليه السّلام فقال: يا أبان بن تغلب ناظره، فناظره حتى غلبه، فقال الشامي: اريد ان أناظرك في الفقه فقال ابو عبدالله: ‏يا زرارة ناظره، فناظر حتى غلبه، فقال الشامي: اريد ان أناظرك في الكلام فقال الإمام عليه السّلام: يا مؤمن الطاق ‏ناظره، فناظره فغلبه، ثم قال: اُريد ان أناظرك في الاستطاعة فقال الإمام عليه السّلام: يا هشام بن سالم كلمه فكلمه ‏فغلبه، ثم قال: اريد ان اتكلم في الامامة فقال الإمام عليه السّلام: لهشام بن الحكم كلمه، فغلبه ايضاً فحارَّ الرجل ‏وسكت‎. ‎
تلامذته من أبناء العامّة
أخذ عنه عدّة من أعلام السنّة وأئمتهم، وما كان أخذهم عنه كما يأخذ التلميذ عن الاُستاذ، بل لم يأخذوا عنه إلاّ وهم ‏متّفقون على إمامته وجلالته وسيادته، كما يقول الشيخ سليمان في الينابيع، والنووي في تهذيب الأسماء واللغات، بل ‏عدّوا أخذهم عنه منقبة شرّفوا بها، وفضيلة اكتسبوها كما يقول الشافعي في مطالب السؤل، ومنهم‎: ‎
أبو حنيفة
النعمان بن ثابت بن زوطي من الموالي وأصله من كابل ولد بالكوفة، وبها نشأ ودرس، وكانت له فيها حوزة وانتقل ‏الى بغداد وبها مات عام 150، وقبره بها معروف0 كان يفتخر ويقول بأفصح لسان:"لولا السنتان لهلك النعمان" يريد ‏السنتين اللتين صحب فيها لأخذ العلم من الإمام جعفر الصّادق عليه السّلام‎.‎
مالك بن أنس
هو ابن أبي عامر من حمير وعداده في بني تيم بن مرّة من قريش0‏
سفيان الثوري
سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، ورد بغداد عدّة مرّات، وروى عن الصّادق عليه السّلام جملة أشياء، ‏وأوصاه الصّادق باُمور ثمينة 0وارتحل الى البصرة وبها مات 161 هـ، وولادته في نيف وتسعين، قيل شهد وقعة ‏زيد الشهيد وكان في شرطة هشام بن عبدالملك‎. ‎
سفيان بن عيينة‎ ‎
سفيان بن عيينة بن أبي عمران الكوفي المكّي ولد بالكوفة عام 107 هـ ومات بمكّة عام198 هـ، ودخل الكوفة وهو ‏شاب على عهد أبي حنيفة‎..‎
يحيى بن سعيد الأنصاري‎ ‎
يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري من بني النجّار تابعي، كان قاضياً للمنصور في المدينة، ثم قاضي القضاة، مات ‏بالهاشميّة عام143 هـ‏‎. ‎
ابن جريح
عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريح المكّي، سمع جمعاً كثيراً من العُلماء، وكان من علماء العامّة، الذين يرون حلية ‏المتعة كما رأى حلّيتها آخرون منهم0‏
القطّان
أبو سعيد يحيى بن سعيد القطّان البصري، كان من أئمة الحديث بل عُدّ محدّث زمانه، واحتجّ به أصحاب الصحاح ‏الستة وغيرهم، توفى عام198 هـ0‏
مُحمّد بن إسحاق
مُحمّد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي والسير، ومدنيّ سكن مكّة، أثنى عليه ابن خلكان كثيراً، وكان بينه وبين ‏مالك عداء، فكان كلّ منهما يطعن في الآخر، قدم الحيرة على المنصور فكتب له المغازي. وقدم بغداد وبها مات ‏عام151 هـ‏‎ ‎
شعبة بن الحجّاج
شعبة بن الحجّاج الأزدي كان من أئمة السنّة وأعلامهم وكان يفتي بالخروج مع إبراهيم بن عبدالله بن الحسن، وقيل ‏كان ممّن خرج من أصحاب الحديث مع إبراهيم بن عبدالله. وعدّه في أصحاب الصّادق عليه السّلام جماعة من السنّة ‏منهم صاحب التهذيب0‏
أيوب السجستاني
أيوب بن أبي تميمة السجستاني البصري، وقيل السختياني، والأول أشهر، مولى عمّار بن ياسر وعدّوه في كبار ‏الفقهاء التابعين، مات عام131 هـ بالطاعون بالبصرة عن65 هـ سنة. عدّه في رجال الصّادق عليه السّلام في نور ‏الأبصار0‏

رسائله عليه السلام
من غور ذخائر تراث اهل البيتع هذه الرّسالة التي كتبها مولانا الإمام الصّادق عليه السّلام للمؤمنين واشتملت على ‏بيان معالم الشخصية الايمانية والكيان الايماني 0عن اسماعيل بن جابر، عن أبي عبد الله عليه السّلام انه كتب بهذه ‏الرّسالة الى اصحابه، وامرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها، وكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم، فاذا ‏فرغوا من الصّلاة نظروا فيها‎. ‎
‎ ‎عن اسماعيل بن مخلّد السرّاج، قال: خرجت هذه الرّسالة من أبي عبد الله عليه السّلام الى اصحابه‎:‎
بسم الله الرحمن الرحيم، اما بعد: فاسألوا الله ربكم العافية، وعليكم بالدعة والوقار والسكينة، وعليكم بالحياء والتنزّه ‏عمّا تنزّه عنه الصالحون قبلكم، وعليكم بمجاملة اهل الباطل، تحملوا الضيم منهم، واياكم ومما ظنهم، دينوا في ما ‏بينكم وبينهم اذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام - فانه لابدّ لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم ‏الكلام - بالتقية التي امر كم الله ان تأخذوا بها في ما بينكم وبينهم، فاذا ابتليتم بذلك منهم فانهم سيؤذونكم، وتعرفون في ‏وجوههم المنكر، ولولا انّ الله تعالى يدفعهم عنكم لسطوا بكم، وما في صدورهم من العداوة والبغضاء اكثر مما يبدون ‏لكم، مجالسكم ومجالسهم واحدة، وارواحكم وارواحهم مختلفة لا تأتلف، لا تحبونهم ابداً ولا يحبونكم، غير ان الله ‏تعالى اكرمكم بالحق وبصركموه، ولم يجعلهم من اهله فتجاملونهم وتصبرون عليهم، وهم لا مجاملة لهم ولا صبر لهم ‏على شيء من اموركم، تدفعون انتم السيئة بالتي هي احسن في ما بينكم وبينهم، تلتمسون بذلك وجه ربكم بطاعته، ‏وهم لا خير عندهم. لا يحل لكم ان تظهروهم على اصول دين الله، فانهم ان سمعوا منكم فيه شيئاً عادوكم عليه، ‏ورفعوه عليكم، وجاهدوا على هلاككم، واستقبلوكم بما تكرهون، ولم يكن لكم النصف منهم في دول الفجار، فاعرفوا ‏منزلتكم في ما بينكم وبين اهل الباطل، فانه لا ينبغي لأهل الحق ان ينزلوا انفسهم منزلة اهل الباطل، لأن الله لم يجعل ‏اهل الحق عنده بمنزلة اهل الباطل‎.‎
الم تعرفوا وجه قول الله تعالى في كتابه اذ يقول: "ام نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم ‏نجعل المتقين كالفجار" أكرموا انفسكم عن اهل الباطل، فلا تجعلوا الله تعالى -وله المثل الأعلى- وامامكم ودينكم الذي ‏تدينون به عرضة لأهل الباطل، فتغضبوا الله عليكم فتهلكوا. فمهلاً ! مهلاً! يا اهل الصلاح، لا تتركوا امر الله وامر ‏من امركم بطاعته فيغيّر الله ما بكم من نعمة، احبوا في الله من وصف صفتكم، وابغضوا في الله من خالفكم، وابذلوا ‏مودتكم ونصيحتكم لمن وصف صفتكم، ولا تبذلوها لمن رغب عن صفتكم وعاداكم عليها وبغاكم الغوائل. هذا أدبنا ‏أدب الله، فخذوا به وتفهموه واعقلوه ولا تنبذوه وراء ظهوركم، ما وافق هداكم اخذتم به وما وافق هواكم طرحتموه ولم ‏تأخذوا به. واياكم والتجبّر على الله، واعلموا ان عبداً لم يبتل بالتجبر على الله الا تجبّر على دين الله، فاستقيموا لله ولا ‏ترتدّوا على اعقابكم فتنقلبوا خاسرين. اجارنا الله واياكم من التجبر على الله ولا قوة لنا ولكم الا بالله‎.‎
وقال: ان العبد اذا كان خلقه الله في الأصل - اصل الخلقة- مؤمنا لم يمت حتى يكرّه الله اليه الشرّ ويباعده منه، ومن ‏كرّه الله اليه الشرّ وباعده منه عافاه الله من الكبر أن يدخله والجبريّة، فلانت عريكته، وحسن خلقه، وطلق وجهه، ‏وصار عليه وقار الاسلام وسكينته وتخشّعه، وورع عن محارم الله، واجتنب مساخطه، ورزقه الله مودّة النّاس ‏ومجاملتهم وترك مقاطعة النّاس والخصومات ولم يكن منها ولا من اهلها في شيء. وان العبد اذا كان الله خلقه في ‏الأصل - أصل الخلق- كافراً لم يمت حتى يحبّب اليه الشرّ ويقرّبه منه، فاذا حبّب اليه الشرّ وقربه منه ابتلي بالكبر ‏والجبريّة، فقسا قلبه، وساء خلقه، وغلظ وجهه، وظهر فحشه، وقلّ حياؤه، وكشف الله ستره، وركب المحارم فلم ينزع ‏عنها، وركب معاصي الله وابغض طاعته واهلها، فبعد ما بين حال المؤمن وحال الكافر، سلوا الله العافية،‌ واطلبوها ‏اليه، ‌ولا حول ولا قوة الا بالله‎.‎
صبروا النفس على البلاء في الدّنيا، فان تتابع البلاء فيها والشدة‌ في طاعة الله وولايته وولاية من امر بولايته خير ‏عاقبة عند الله في الاخرة من ملك الدّنيا، وان طال تتابع نعيمها وزهرتها وغضارة عيشها في معصية الله وولاية من ‏نهى الله عن ولايته وطاعته، فان الله امر بولاية الائمة الذين سماهم في كتابه في قوله "وجعلناهم ائمة يهدون بأمرنا" ‏وهم الذين امر الله بولايتهم وطاعتهم، والذين نهى الله عن ولايتهم وطاعتهم وهم ائمة الضلال الذين قضى الله لهم ان ‏يكون لهم دول في الدّنيا على اولياء الله الائمة من آل مُحمّد صلّى الله عليه وآله يعملون في دولتهم بمعصية الله ‏ومعصية رسول الله صلّى الله عليه وآله ليحق عليهم كلمة العذاب، وليتم امر الله فيهم الذي خلقهم له في الأصل اصل ‏الخلق من الكفر الذي سبق في علم الله ان يخلقهم له في الأصل، ومن الذين سماهم الله في كتابه في قوله "وجعلناهم ‏ائمة يدعون الى النار" فتدبروا هذا واعقلوه، ولا تجهلوه، فان من جهل هذا واشباهه مما افترض الله عليه في كتابه ‏مما امر به ونهى عنه ترك دين الله وركب معاصيه، فاستوجب سخط الله، فاكبه الله على وجهه في النار‎.‎
وقال: ايتها العصابة المرحومة المفلحة، ان الله تعالى اتم لكم ما آتاكم من الخير، واعلموا انه ليس من علم الله ولا من ‏امره ان يأخذ احد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس، قد انزل الله القُرآن وجعل فيه تبيان كل شيء ‏وجعل للقرآن وتعلم القُرآن اهلاً، لا يسع اهل علم القُرآن الذين آتاهم الله علمه ان يأخذوا فيه بهوى، ولا رأي ولا ‏مقائيس، اغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه، وخصهم به ووضعه عندهم، كرامة من الله تعالى اكرمهم بها، وهم ‏اهل الذكر الذين امر الله هذه الامة بسؤالهم، وهم الذين من سألهم - وقد سبق في علم الله ان يصدّقهم ويتّبع اثرهم- ‏ارشدوه، واعطوه من علم القُرآن ما يهتدي به الى الله باذنه والى جميع سبل الحق، وهم الذين لا يرغب عنهم وعن ‏علمهم الذي اكرمهم الله به وجعله عندهم الا من سبق عليه في علم الله الشقاء في اصل الخلق تحت الأضّللة، فأولئك ‏الذين يرغبون عن سؤال اهل الذكر والذين آتاهم الله تعالى علم القُرآن ووضعه عندهم وامر بسؤالهم، فاولئك الذين ‏يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم حتى دخلهم الشيطان، لانهم جعلوا اهل الايمان في علم القُرآن عند الله كافرين، ‏وجعلوا اهل الضلالة في علم القُرآن عند الله مؤمنين، وحتى جعلوا ما احل الله في كثير من الامر حراماً، وجعلوا ما ‏حرم الله في كثير من الامر حلالاً. فذلك اصل ثمرة اهوائهم. وقد عهد اليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله قبل موته، ‏فقالوا: نحن بعد ما قبض الله [تعالي] رسوله يسعنا ان نأخذ بما اجتمع عليه رأي النّاس بعد [ما] قبض الله تعالى ‏رسوله وبعد عهده الذي عهده الينا وامرنا به، مخالفة لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلم. فما احد اجرأ على ‏الله ولا ابين ضلالة ممن أخذ بذلك وزعم ان ذلك يسعه. والله ان لله على خلقه ان يطيعوه ويتبعوا امره في حياة مُحمّد ‏صلى‌ الله عليه وآله وسلم وبعد موته، هل يستطيع اولئك اعداء الله ان يزعموا ان احداً ممن اسلم مع مُحمّد صلّى الله ‏عليه وآله وسلم اخذ بقوله ورأيه ومقائيسه؟ فان قال: نعم، فقد كذب على الله وضل ضلالاً بعيداً، وان قال: لا لم يكن ‏لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقائيسه، فقد اقر بالحجة على نفسه، وهو ممن يزعم ان الله يطاع ويتبع امره بعد قبض الله ‏رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم وقد قال الله تعالى - وقوله الحق-: " وما مُحمّد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افان ‏مات او قتل انقلبتم على ‌اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين"12‏‎.‎
وذلك ليعلموا ان الله تعالى يطاع ويتبع امره في حياة مُحمّد صلّى الله عليه وآله وسلم وبعد قبض الله مُحمّد صلّى الله ‏عليه وآله وسلم، وكما لم يكن لأحد من النّاس مع مُحمّد صلّى الله عليه وآله وسلم ان يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه ‏خلافاً لأمر مُحمّد صلّى الله عليه وآله وسلم فكذلك لم يكن لأحد من النّاس من بعد مُحمّد صلّى الله عليه وآله وسلم ان ‏يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه‎.‎
وقال: دعوا رفع ايديكم في الصّلاة الا مرة واحدة حين تفتتح الصّلاة فان النّاس قد شهروكم بذلك، والله المستعان، ولا ‏حول ولا قوة الا بالله‎.‎
وقال: اكثروا من ان تدعوا الله، فان الله يحب من عباده المؤمنين ان يدعوه، وقد وعد عباده المؤمنين بالاستجابة، والله ‏مصير دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم عملاً يزيدهم به في الجنة‎.‎
فأكثروا ذكر الله ما استطعتم في كل ساعة من ساعات الليل والنهار، فان الله تعالى امر بكثرة الذكر له، والله ذاكر لمن ‏ذكره من المؤمنين. واعلموا ان الله لم يذكره احد من عباده المؤمنين الا ذكره بخير، فاعطوا الله من انفسكم الاجتهاد ‏في طاعته، فان الله لا يدرك شيء من الخير عنده الا بطاعته واجتناب محارمه التي حرم الله تعالى في ظاهر القُرآن ‏وباطنه، فان الله تعالى قال في كتابه - وقوله الحق-: "وذروا ظاهر الاثم وباطنه‎".‎
واعلموا ان ما ما امر الله ان تجتنبوه فقد حرمه، واتبعوا آثار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسنته فخذوا بها، ولا ‏تتبعوا اهواء‌كم وآراءكم فتضلوا، فان اضلّ النّاس عند الله من اتبع هواه ورأيه بغير هدى من الله، واحسنوا الى انفسكم ‏ما استطعتم، فان احسنتم احسنتم لأنفسكم وان أسأتم فلها، وجاملوا النّاس ولا تحملوهم على رقابكم، تجمعوا مع ذلك ‏طاعة ربكم‎.‎
واياكم وسب اعداء الله حيث يسمعونكم فيسبوا الله عدواً بغير علم‎.‎
وقد ينبغي لكم ان تعلموا حد سبهم لله كيف هو، انه من سب اولياء الله فقد انتهك سب الله، ومن اظلم عند الله ممن ‏استسب لله ولأوليائه؟! فمهلاً مهلاً! فاتبعوا امر الله ولا قوة الا بالله‎.‎
وقال: ايتها العصابة الحافظ الله لهم امرهم، عليكم بآثار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسنته وآثار الأئمة الهداة من ‏اهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله من بعده وسنتهم، فانه من اخذ بذلك فقد اهتدى، ومن ترك ذلك ورغب عنه ‏ضل، لأنهم هم الذين امر الله بطاعتهم وولايتهم‎.‎
وقد قال ابونا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن وان قل ارضى لله ‏وانفع عنده في العاقبة‌ من الاجتهاد في البدع واتباع الأهواء. الا ان اتباع الاهواء واتباع البدع بغير هدى من الله ‏ضلال، وكل ضلال بدعة، وكل بدعة في النار. ولن ينال شيء من الخير عند الله الا بطاعته والصبر والرضا، لان ‏الصبر والرضا من طاعة الله. واعلموا انه لن يؤمن عبد من عبيده حتى يرضى عن الله في ما صنع الله اليه وصنع به ‏على ما احب وكره، ولن يصنع الله بمن صبر ورضي عن الله الا ما هو اهله، وهو خير له مما احب وكره. وعليكم ‏بالمحافظة على الصلوات والصلاة ‌الوسطى وقوموا لله قانتين، كما امر الله به المؤمنين في كتابه من قبلكم واياكم. ‏وعليكم بحب المساكين المسلمين، فانه من حقرهم وتكبر عليهم فقد زلّ عن دين الله، والله له حاقر وماقت، وقد قال ‏أبونا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم "امرني ربي بحب المساكين المسلمين منهم". واعلموا انه من حقر أحداً من ‏المسلمين القى‌ الله عليه المحقرة، حتى يمقته النّاس والله [له] اشد مقتاً. فاتقوا الله في اخوانكم المسلمين المساكين منهم ‏فان لهم عليكم حقاً ان تحبوهم، فان الله امر نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم بحبهم، فمن لم يحب من امر الله بحبه فقد ‏عصى الله ورسوله، ومن عصى الله ورسوله ومات على ذلك مات وهو من الغاوين‎.‎
واياكم والعظمة والكبر، فان الكبر رداء الله تعالى، فمن نازع الله رداءه قصمه الله واذله يوم القيامة. واياكم ان يبغي ‏بعضكم على بعض، فانها ليست من خصال الصالحين فانه من بغي صير الله بغيه على نفسه، وصارت نصرة الله لمن ‏بغي عليه، ومن نصره الله غلب،‌ واصاب الظفر من الله. واياكم ان يحسد بعضكم على بعض فان الكفر اصله الحسد‏‎.‎
واياكم وان تعينوا على ‌مسلم مظلوم، فيدعوا الله عليكم فيستجاب له فيكم فان ابانا رسول الله صلّى الله وعليه وآله وسلم ‏كان يقول: "ان دعوة المسلم المظلوم مستجابة". وليعن بعضكم بعضاً، فان ابانا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ‏كان يقول: "ان معونة المسلم خير واعظم اجراً‌من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام‎".‎
واياكم واعسار احد من اخوانكم من المؤمنين، ان تعسروه بالشيء يكون لكم قبله وهو معسر. فان ابانا رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله وسلم كان يقول: "ليس لمسلم ان يعسر مسلماً، ومن انظر معسراً اظله الله يوم القيامة بظله يوم لا ‏ظل الا ظله‎".‎
واياكم - ايتها العصابة المرحومة‌ المفضلة على من سواها- وحبس حقوق الله قبلكم يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، ‏فانه من عجل حقوق الله قبله كان الله اقدر على التعجيل له الى مضاعفة الخير في العاجل والاجل، وانه من آخر ‏حقوق الله قبله كان الله اقدر على تأخير رزقه، ومن حبس الله رزقه لم يقدر ان يرزق نفسه، فادوا الى الله حق ما ‏رزقكم يطيب لكم بقيته وينجز لكم ما وعدكم من مضاعفته لكم الأضعاف الكثيرة التي لا يعلم بعددها ولا بكنه فضلها ‏الا الله رب العالمين‎.‎
وقال: اتقوا الله ايتها العصابة، وان استطعتم ان لا يكون منكم محرج للامام، وان محرج الإمام هو الذي يسعى بأهل ‏الصلاح من اتباع الإمام، المسلمين لفضله، الصابرين على ‌اداء حقه، العارفين بحرمته‎. ‎
واعلموا ان من نزل بذلك المنزل عند الإمام فهو محرج الإمام، فاذا فعل ذلك عند الإمام احرج الإمام الى ان يلعن اهل ‏الصلاح من اتباعه، المسلمين لفضله، الصابرين على اداء حقه، العارفين بحرمته، فاذا لعنهم لاحراج اعداء الله الإمام ‏صارت لعنته رحمة من الله عليهم، وصارت اللعنة من الله و [من] الملائكة ورسوله على اولئك‎.‎
واعلموا - ايتها العصابة- ان السنة من الله قد جرت في الصالحين قبل‎.‎
وقال: من سره ان يلقي الله وهو مؤمن حقاً حقاً فليتول الله ورسوله والذين امنوا، وليبرأ الى الله من عدوهم، وليسلم لما ‏انتهى اليه من فضلهم لان فضلهم لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا من دون ذلك. الم تسمعوا ما ذكر الله من ‏فضل اتباع الائمة الهداة‌ وهم المؤمنون، قال: "فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء ‏والصالحين وحسن اولئك رفيقاً"فهذا وجه من وجوه فضل اتباع الأئمة، فكيف بهم وفضلهم، ومن سره ان يتم الله له ‏ايمانه حتى يكون مؤمناً حقاً حقاً فليف لله بشروطه التي اشترطها على المؤمنين، فانه قد اشترط مع ولايته وولاية ‏رسوله وولاية ائمة المؤمنين عليهم السّلام اقام الصّلاة، وايتاء الزكاة، واقراض الله قرضاً حسناً، واجتناب الفواحش ‏ما ظهر منها وما بطن، فلم يبق شيء مما فسر مما حرم الله الا وقد دخل في جملة قوله، فمن دان الله في ما بينه وبين ‏الله مخلصاً لله، ولم يرخص لنفسه في ترك شيء من هذا فهو عند الله في حزبه الغالبين وهو من المؤمنين حقاً. واياكم ‏والاصرار على شيء مما حرم الله في ظهر القُرآن وبطنه وقد قال الله: "ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون"الى ‏ههنا رواية القاسم بن الربيع‎.‎
يعني ان المؤمنين قبلكم اذا نسوا شيئاً مما اشترط الله في كتابه عرفوا انهم قد عصوا الله في تركهم ذلك الشيء، ‏فاستغفروا ولم يعودوا الى تركه، فذلك معنى قول الله تعالى "ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون‎".‎
واعلموا انه انما امر ونهى ليطاع في ما امر به، ولينتهي عما نهي عنه. فمن اتبع امره فقد اطاعه، وقد ادرك كل شيء ‏من الخير عنده، ومن لم ينته عما نهي الله عنه فقد عصاه، فان مات على معصيته اكبه الله على وجهه في النار‎.‎
واعلموا انه ليس بين الله وبين احد من خلقه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلهم الا طاعتهم له، ‏فجدوا في طاعة الله ان سركم ان تكونوا مؤمنين حقاً حقاً، ولا قوة الا بالله‎.‎
وقال: عليكم بطاعة ربكم ما استطعتم، فان الله ربكم. واعلموا ان الاسلام هو التسليم، والتسليم هو الاسلام، فمن سلم ‏فقد اسلم، ومن لم يسلم فلا اسلام له، ومن سره ان يبلغ الى نفسه في الاحسان فليطع الله، فانه من اطاع الله فقد ابلغ الى ‏نفسه في الاحسان. واياكم ومعاصي الله ان تركبوها فانه من انتهك معاصي الله فركبها فقد ابلغ في الاساءة الى نفسه، ‏وليس بين الاحسان والاساءة منزلة، فلأهل الاحسان عند ربهم الجنة، ولأهل الاساءة عند ربهم النار، فاعملوا بطاعة‌ ‏الله واجتنبوا معاصيه. واعلموا انه ليس يغني عنكم من الله احد من خلقه شيئاً، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل ولا من ‏دون ذلك، فمن سره ان تنفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب الى الله ان يرضى عنه‎.‎
واعلموا ان احداً من خلق الله لم يصب رضا الله الا بطاعته وطاعة ‌رسوله وطاعة ولاة امره من آل مُحمّد صلّى الله ‏عليهم ومعصيتهم من معصية الله ولم ينكر لهم فضلاً عظم ولا صغر. واعلموا ان المنكرين هم المكذبون، وان ‏المكذبين هم المنافقون، وان الله تعالى قال للمنافقين - وقوله الحق-: "ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد ‏لهم نصيراً". ولا يفرقن احد منكم ألزم الله قلبه طاعته وخشيته من احد من النّاس اخرجه الله من صفة الحق ولم يجعله ‏من اهلها،‌فان من لم يجعله الله من اهل صفة الحق فاولئك هم شياطين الانس والجن، وان لشياطين الانس حيلاً ومكراً ‏وخدائع ووسوسة بعضهم الى بعض، يريدون ان استطاعوا ان يردوا اهل الحق عما اكرمهم الله به من النظر في دين ‏الله الذي لم يجعل الله شياطين الانس من اهله، إرادة ان يستوي اعداء الله واهل الحق في الشك والانكار والتكذيب ‏فيكونون سواء كما وصف الله في كتابه من قوله سبحانه "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء". ثم نهى الله ‏اهل النصر بالحق ان يتخذوا من اعداء الله ولياً ولا نصيراً، فلا يهوّلنكم ولا يردنكم عن النصر بالحق الذي خصكم الله ‏به من حيلة شياطين الانس ومكرهم وحيلهم ووساوس بعضهم الى بعض، فان اعداء الله ان استطاعوا صدوكم عن ‏الحق، فيعصمكن الله من ذلك. فاتقوا الله وكفو السنتكم الا من خير، واياكم ان تذلقوا السنتكم بقول الزور والبهتان، ‏والاثم والعدوان، فانكم ان كففتم السنتكم عما يكره الله عما نهاكم عنه كان خيراً لكم عند ربكم من ان تذلقوا السنتكم به، ‏فان ذلق اللسان في ما يكره الله وفي ما ينهى عنه‎.‎

كلامه عليه السلام في معرفة الله جلّ جلاله
كفى من كلامه عليه السّلام فيها أن نورد هذه الشذَرَات الآتية التي يدعو فيها إلى المعرفة، ويحثُّ عليها كاشفاً عن ‏جليل آثارها وعظيم لَذَّتِها‎.‎
فقال عليه السّلام: لَو يعلم النّاس ما في فَضلِ مَعرفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ ما مَدُّوا أعينهم إلى ما متَّع الله به الأعداء من زَهرَة ‏هذه الحياة الدّنيا ونعيمها، وكانت دُنيَاهم أَقَلَّ عندهُم مِمَّا يَطؤُونَهُ بأرجُلِهِم، وَلَنعموا بمعرفة الله عزَّ وجلَّ، وتلذَّذُوا به ‏تَلَذُّذ من لم يَزَل في روضات الجنَّات مع أولياء الله‎.‎
إِن معرفة الله عزَّ وجلَّ أُنْسٌ مِن كُلِّ وَحشةٍ، وصَاحِبٌ مِن كُلِّ وِحدَة، وَنُورٌ من كُلِّ ظُلمة، وقوَّةٌ مِن كُلِّ ضَعف، وشِفَاءٌ ‏مِن كُلَّ سَقم‎.‎
ثم قال عليه السّلام: قَد كان قبلَكُم قومٌ يَقتلون ويَحرقون ويَنشرون بالمَنَاشير، وتَضيقُ عليهم الأرض بِرَحبِهَا، فما ‏يَردُّهُم عما عليه شيء مِمَّا هُم فيه، من غير ترة وتروا من فعل ذلك بِهم وَلا أَذى، بل ما نَقِمُوا منهم إِلا أن يُؤمنوا باللهِ ‏العزيزِ الحميد، فَاسْألوا درجاتهم، واصبِرُوا على نَوائِبِ دَهرِكُم، تُدرِكُوا سَعيَهُم‎.‎

بيان الإمام الصادق عليه السلام لعظمة الله تعالى
دخل أبو شاكر الديصاني - وهو زنديق ملحد - على الإمام الصّادق عليه السّلام وقال: يا جعفر بن مُحمّد دلِّني على ‏معبودي‎ !.‎
فقال له عليه السّلام: إجلس، فإذا غلام صغير في كفِّه بيضة، فقال عليه السّلام: ناولني يا غلام البيضة، فناوله إياها‎.‎
فقال عليه السّلام: يا ديصاني، هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ‏ذهبة مايعة، وفضّة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضَّة الذائبة، ولا الفضَّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على ‏حالها، لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها، ولم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها‎.‎
لا يُدرى للذكر خلقت أم للأُنْثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى له مدبِّراً؟
فأطرق الديصاني مليّاً ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأنك إمام ‏وحجَّة من الله على خلقه، وأنا تائب إلى الله تعالى ممَّا كنت فيه‎.‎

وصاياه عليه السلام
ما أكثر الغالي من نصائحه والثمين من وصاياه، فإنّه عليه السّلام لم يترك نهجاً للنصح إِلاّ سلكه، ولا باباً للإرشاد إِلاّ ‏ولَجه، وفي هذا المضمار نذكر بعض وصاياه عليه السّلام‎.‎
‏1ـ قال عليه السّلام: مَن أُعطِيَ ثَلاثاً لم يُمنَع ثلاثاً، مَن أُعطِيَ الدعاءَ أُعطِيَ الإِجَابة، ومَن أُعطِيَ الشكرَ أُعطِيَ ‏الزيادة، ومَن أُعطِيَ التوكُّلَ أُعطِيَ الكفاية‎.‎
ثمّ قال عليه السّلام: أَتَلَوْتَ كتاب الله عزَّ وجلَّ: ادْعُونِي أَستَجِبْ لَكُمْ، وقال: وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيْدَنَّكُمْ، وقال: وَمَنْ يَتَوَكَّلُ ‏عَلى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ‎.‎
‏2ـ قال عليه السّلام: إِذَا أرادَ أحدُكُم ألاَّ يَسأَل اللهَ شيئاً إِلا أَعطَاهُ فَلْيَيأَس مِن النّاس كُلِّهِم، وَلا يَكُون لَهُ رجاءً إِلاّ عِند الله، ‏فَإِذا عَلِمَ اللهُ عزَّ وجلَّ ذلك مِن قَلبِهِ لم يَسأل اللهَ شيئاً إِلاّ أَعطَاهُ‎.‎
‏3ـ قال عليه السّلام: اِسمَعوا مِنِّي كَلاماً هُوَ خَير مِن الدُهم المُوَقَّفة، لا يتكلّمُ أَحَدُكم بِمَا لا يَعنِيه، وَلْيَدَع كَثيراً مِن الكلامِ ‏فِيما يَعنِيه، حَتّى يَجِدَ له موضعاً، فَرُبَّ مُتكلِّمٍ في غير موضِعِه جَنَى على نفسِه بكلامه، ولا يُمارِيَنَّ أحدكم سَفيهاً ولا ‏حليماً، فإنَّ مَن مَارَى حَليماً أقصَاه، ومَن مَارَى سَفِيهاً أرداه، واذكُروا أخَاكم إِذَا غاب عنكم بِأَحسَنِ مَا تُحبُّونَ أن ‏تُذكروا بِهِ إِذا غِبتُم، واعمَلُوا عمل من يَعلمُ أَنَّه مُجازَى بِالإِحسَان‎.‎
‏4ـ قال عليه السّلام: إِذا خَالطتَ النّاس فَإنِ استطعتَ ألاَّ تُخالطَ أحداً مِنهُم إِلاَّ كَانت يَدَك العُليَا عليه فافعل، فإنَّ العبدَ ‏يكون فيه بعضُ التقصيرِ مِن العِبادة، وَيَكون له حُسن الخُلق، فَيُبلِغُهُ اللهُ بِخُلقهِ درجةَ الصائمِ القائم‎.‎
‏5ـ قال عليه السّلام للمفضَّل بن عمر الجعفي: أوصيك بِسِتِّ خِصالٍ تُبَلِّغُهُنَّ شيعتي.قال: وما هي يا سيّدي؟
فقال عليه السّلام: أَداءُ الأمانةِ إِلَى من ائْتَمَنَكَ، وَأَن تَرضى لأَخِيكَ مَا تَرضَى لِنَفسِكَ، واعلَم أنَّ للأُمُور أَوَاخِر، فَاحذَرِ ‏العَواقِبَ، وأنَّ للأُمُور بَغتَاتٌ، فَكُن عَلَى حَذَرٍ، وَإِيَّاكَ وَمُرتَقَى جَبَلٍ سَهلٍ إِذا كَانَ المُنحَدَرُ وَعراً، وَلا تَعِدنَّ أخَاكَ وَعداً ‏ليس في يَدِك وَفَاؤُهُ‎.‎
‏6ـ قال عليه السّلام: لا تَمزحْ فيذهبُ نُورُك، ولا تَكذِب فَيذهبُ بَهاؤُك، وَإِيَّاك وخِصلتين: الضَّجَر، والكَسَل، فإنَّك إِن ‏ضجرتَ لا تَصبِرُ على حَقٍّ، وَإِن كَسلتَ لم تُؤَدِّ حَقاً‎.‎
‏7ـ قال عليه السّلام: وَكان المَسيحُ عليه السّلام يقولُ: مَن كَثُرَ هَمُّه سَقم بَدنُه، ومَن سَاء خُلقه عذَّب نفسَه، وَمَن كَثُر ‏كلامه كَثُر سقطه، وَمَن كَثُر كَذِبُهُ ذهبَ بهاؤه، وَمَن لاحَى الرِّجَال ذَهبَتْ مرُوَّتُه‎.‎
‏8ـ قال عليه السّلام: تَزَاوَرُوا، فإنَّ في زيارَتِكُم إِحياءً لِقُلوبِكُم، وَذِكراً لأحَادِيثِنَا، وأحاديثُنا تعطفُ بعضَكم عَلى بعضٍ، ‏فإن أَخذتُم بِها رُشِدتُم وَنَجَوتُم، وإِن تَرَكتُمُوهَا ظَلَلتُم وهَلَكتُم، فَخُذُوا بِها وأنَا بِنَجَاتِكُم زَعِيم‎.‎ ‏9ـ قال عليه السّلام: اِجعَلُوا أمرَكُم هذا للهِ ولا تجعلوهُ للنَّاس، فإنَّه ما كان لله فَهُوَ لله، وَما كان للنَّاس فَلا يَصعدُ إِلَى ‏السّماء، ولا تخاصمُوا بِدِينِكُم، فإنّ المُخَاصَمَة مُمرضَةٌ للقلب، إِنَّ الله عزَّ وجلَّ قال لنبيِّه صلّى الله عليه وآله: إِنَّكَ لا ‏تَهدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهدِي مَنْ يَشَاءُ، وقال: أَفَأَنْتَ تُكرِهُ النّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‎.‎
ذَرُوا النّاس فإنّ النّاس قد أخذوا عن النّاس، وإِنّكم أخذتُم عن رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وَعَن عليّ عليه السّلام وَلا ‏سَوَاء، وَأنِّي سمعتُ أبي يقولُ: إذا كَتبَ الله عَلى عبدٍ أن يُدخلَهُ في هذا الأمرِ كَان أسرعُ إِليه مِن الطيرِ إِلى وَكْرِهِ‎.‎
‏10ـ قال عليه السّلام: اِصبِرُوا على الدّنيا فإنَّما هيَ سَاعةٌ، فما مضى منها فلا تجد له ألماً ولا سُروراً، وما لم يجئ فلا ‏تدري مَا هُو، وَإِنّما هي ساعتُك التي أنت فِيها، فَاصبِر فِيها على طَاعة اللهِ، واصبِر فيها عن معصيةِ الله‎.‎
‏11ـ قال عليه السّلام: اِجعل قَلبَكَ قريباً بِرّاً، وولداً مواصلاً، واجعلْ عَمَلَك والداً تتبعُهُ، واجعلْ نفسك عَدوّاً تُجَاهِدُهُ، ‏واجعل مَالَكَ عَارِيةٌ تَرُدُّهَا‎.‎
‏12ـ قال عليه السّلام: إِن قَدرتَ ألا تُعرَف فَافعل، ما عليك ألا يُثنِي عليك النّاس، وما عليك أن تكون مَذمُوماً عند ‏النّاس إذا كُنتَ مَحمُوداً عِندَ الله‎.‎
‏13ـ قال عليه السّلام: الدعاء يردُّ القَضَاء ما أُبرِمَ إِبرَاماً، فَأَكثِرْ مِن الدعاء فإنّه مفتاحُ كلِّ رَحمة، وَنجاحُ كلِّ حاجة، ‏ولا يُنَالُ ما عند الله عزَّ وجلَّ إِلاّ بالدعاء، وأنَّه ليس باباً يكثرُ قرعه إِلاّ ويوشَكُ أن يُفتحَ لصاحِبِه‎.‎
‏14ـ قال عليه السّلام: لا تَطعنوا في عيوبِ مَن أقبلَ إِليكم بمودَّته، ولا تُوقفُوه على سَيِّئَة يخضع لها، فإنَّها لَيست مِن ‏أخلاقِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وَلا مِن أخلاق أوليائه‎.‎
‏15ـ قال عليه السّلام: أَحسِنُوا النَّظر فيما لا يَسَعُكُم جَهلُه، وانصحُوا لأنفُسِكُم، وجاهدوا في طلب ما لا عُذر لكم في ‏جَهلِه، فإنَّ لِدِينِ الله أركاناً لا تنفعُ من جَهِلَهَا شدَّة اجتهاده في طلب ظَاهرِ عِبَادتِهِ، ولا يَضرُّ من عرفها فَدَانَ بها حُسن ‏اقتِصَاده، ولا سبيلَ إلى أحدٍ إلى ذلك إِلاّ بِعَوْنٍ مِنَ الله عزَّ وجلَّ‏‎.‎
‏16ـ قال عليه السّلام: إِيَّاكم وعِشرة الملوك وأبناءِ الدّنيا، فَفِي ذلكَ ذِهابُ دِينِكم، وَيُعقِّبُكُم نِفَاقاً، وذلك دَاء رَدِيٌّ لا شِفَاءَ ‏له، وَيُورثُ قَسَاوَة القلبِ، وَيسلبكم الخُشُوع‎.‎
وعليكم بالإشكال من النّاس والأوساط من النّاس، فَعِندهُم تَجِدُون مَعَادنَ الجواهر، وَإِيَّاكُم أن تمدُّوا أطرافكم إِلَى ما في ‏أيدي أبناء الدّنيا، فَمَن مَدَّ طرفه إلى ذلك طَال حُزنُهُ، ولم يُشفِ غَيظَه، واستَصغَرَ نِعمَةَ الله عنده، فَيَقِلُّ شُكرُه لله، ‏وَانظُرْ إِلى مَن هُوَ دُونَكَ فَتَكونَ لأَِنْعُمِ الله شَاكراً، وَلِمَزِيدِهِ مُستَوجِباً، وَلِجُودِهِ سَاكناً‎.‎
‏17ـ قال عليه السّلام: إِذا هَمَمْتَ بشيءٍ من الخير فلا تُؤَخِّره، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ رُبَّما اطَّلَعَ على العبد وهو على شيء ‏من الطاعة فيقول: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لا أُعَذِّبُكَ بعدهَا أبداً‎.‎
وقال عليه السّلام أيضاً: وإذا هَمَمْتَ بِسيِّئَةٍ فَلا تعمَلها فَإِنَّهُ رُبَّمَا اطَّلعَ عَلى العبدِ وهو على شيءٍ من المَعصِية، فيقول: ‏وعِزَّتي وَجَلالِي لا أغفر لك بعدها أبداً‎.‎
‏18ـ قال عليه السّلام لابنه الإمام الكاظم عليه السّلام: يا بُني اِقبل وصيَّتي، واحفظ مقالتي، فإنّك إِن حفظتها تعِش ‏سعيداً، وتمُت حميداً، يا بُني إِنَّ من قنعَ استغنى، ومن مدَّ عينيه إِلى ما في يد غيره مات فقيراً، ومن لم يرضَ بما قسمَه ‏الله لهُ اتَّهم الله في قضائه، ومَن استصغر زلّة نفسه استكبر زلّة غيره‎.‎
يا بُني من كشف حِجاب غيره انكشف عورته، ومن سلَّ سيف البغي قُتل به، ومن احتفر لأخيه بئراً سقط فيها، ومن ‏داخَل السُفهاء حُقّر، ومن خالط العُلماء وُقّر، ومن دخلَ مداخِل السوء اتُّهم، يا بُني قُل الحقّ لك أو عليك، وإِيّاك ‏والنميمة فإنَّها تزرع الشحناء في قُلوب الرجال‎.‎
يا بُني إِذا طلبت الجُود فعليكَ بمعادنه، فإنّ للجود معادِن، وللمعادِن أُصولاً، وللأُصول فروعاً، وللفروع ثمراً، ولا ‏يطيبُ ثمر إِلاّ بفرع، ولا أصل ثابت إِلاّ بمعدن طيّب، يا بُني إِذا زرت فزُر الأخيار، ولا تزُر الأشرار، فإنَّهم صخرة ‏صمّاء لا ينفجر ماؤها، وشجرة لا يخضّر ورقها، وأرض لا يظهر عشبها‎.‎

شهادته عليه السلام
ان المكانة التي كانت للصادق عليه السّلام، علما وإمامة، جعلته ـ كآبائه وأهل بيته عامة ـ عرضة للحسد والعداوات ‏بل وللخوف من قبل الخلفاء والحكام بصورة عامة؛ وقد تحمل الإمام الصّادق عليه السّلام بخاصة من بعض معاصريه ‏ومن مدعي الإمامة ومدعي العلم والفضل في زمانه، أذايا وبلايا كثيرة، ولاسيما من بعض أرحامه وأقاربه وفيهم ‏اخوة وأبناء عم وأنسباء‎.‎
ولكن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور الدوانيقي، كان اشدهم في تطلب فرصة للبطش بالإمام والبحث عن ذريعة ‏لقتله، حتى أنه أشخصه أربع مرات من مدينة جده عليه السّلام، إلى الكوفة ليقتله، فكانت تظهر من الإمام آيات ‏ومعجزات تمنعه عن الاقدام على جريمته، إلى أن بعث إلى الإمام عليه السّلام بسم أجبروه جبرا على شربه، فاستشهد ‏سلام الله عليه مظلوما بسم المنصور، وكان ذلك في المدينة في شهر شوال، على المشهور وقيل ايضا الاثنين منتصف ‏رجب من سنة ثمان وأربعين ومائة للهجرة، وله من العمر خمس وستون سنة، ودفن بجانب ابيه الباقر عليه السّلام، ‏وجده السّجاد، عم جده الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام في بقيع الغرقد في المدينة المنورة، فيا له من قبر ما أعظمه، ‏ويا لها من تربة ما أكرمها عند الله عز وجل، وقد حوت اربعا من الحجج المعصومين والخلفاء الراشدين، سلام الله ‏عليهم أجمعين‎.‎

زيارته عليه السلام
زيارة أئمة البقيع‎ ‎
أئمة البقيع عليهم السّلام هم: الإمام الحسن المجتبى والإمام زين العابدين والإمام مُحمّد الباقر والإمام جعفر الصّادق ‏عليهم السّلام إذا أردت زيارتهم فاعمل بما سبق من آداب الزيارة من الغسل والكون على الطهارة ولبس الثياب ‏الطاهرة النظيفة والتطيب والاستئذان للدخول ونحو ذلك وقل أيضاً‎:‎
يا مواليّ يا أبناء رسول الله عبدكم وابن أمتكم الذليل بين أيديكم والمضعف في علو قدركم والمعترف بحقكم جاءكم ‏مستجيراً بكم قاصداً إلى حرمكم متقرباً إلى مقامكم متوسلاً إلى الله تعالى بكم. أأدخل يا موالي أأدخل يا أولياء الله ‏أأدخل يا ملائكة الله المحدقين بهذا الحرم المقيمين بهذا المشهد‎.‎
وادخل بعد الخشوع والخضوع ورقة القلب وقدّم رجلك اليمنى وقل‎:‎
الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرةً وأصيلاً والحمد لله الفرد الصمد الماجد الأحد المتفضل المنان ‏المتطوّل الحنان الذي منّ بطوله وسهل زيارة ساداتي بإحسانه ولم يجعلني عن زيارتهم ممنوعاً بل تطوّل ومنح‎.‎
ثم اقترب من قبورهم المقدسة واستقبلها واستدبر القبلة وقل‎:‎
السّلام عليكم أئمة الهدى السّلام عليكم أهل التقوى السّلام عليكم أيها الحجج على أهل الدّنيا السّلام عليكم أيها القوّام في ‏البرية بالقسط السّلام عليكم أهل الصفوة السّلام عليكم آل رسول الله السّلام عليكم أهل النجوى أشهد أنكم قد بلغتم ‏ونصحتم وصبرتم في ذات الله وكُذِّبتم وأُسيء إليكم فغفرتم وأشهد أنكم الأئمة الراشدون المهتدون وأن طاعتكم ‏مفروضةٌ وأن قولكم الصّدق وأنكم دعوتم فلم تُجابوا وأمرتم فلم تُطاعوا وأنكم دعائم الدّين وأركان الأرض لم تزالوا ‏بعين الله ينسخكم من أصلاب كل مطهرٍ وينقلكم من أرحام المطهرات لم تدنسكم الجاهلية الجهلاء ولم تشرك فيكم فتن ‏الأهواء طبتم وطاب منبتكم مَنّ بكم علينا ديان الدّين فجعلكم في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وجعل صلاتنا ‏عليكم رحمةً لنا وكفارةً لذنوبنا إذ اختاركم الله لنا وطيب خلقنا بما مَنّ علينا من ولايتكم وكنا عنده مسمّين بعلمكم ‏معترفين بتصديقنا إياكم وهذا مقام من أسرف وأخطأ واستكان وأقرّ بما جنى ورجا بمقامه الخلاص وأن يستنقذه بكم ‏مستنقذ الهلكى من الردى فكونوا لي شفعاء فقد وفدت إليكم إذ رغب عنكم أهل الدّنيا واتخذوا آيات الله هزواً واستكبروا ‏عنها يا من هو قائمٌ لا يسهو ودائمٌ لا يلهو ومحيطٌ بكل شيء لك المن بما وفقتني وعرّفتني بما أقمتني عليه إذ صد عنه ‏عبادك وجهلوا معرفته واستخفوا بحقه ومالوا إلى سواه فكانت المِنّة منك عليّ مع أقوامٍ خصصتهم بما خصصتني به ‏فلك الحمد إذ كنت عندك في مقامي هذا مذكوراً مكتوباً فلا تحرمني ما رجوت ولا تخيبني فيما دعوت بحرمة مُحمّد ‏وآله الطاهرين وصلى الله على مُحمّد وآل مُحمّد‎.‎
ثم ادع لنفسك بما تريد‎.‎
وقال الشيخ الطوسي رضي الله عنه في التهذيب: ثم صلِّ صلاة الزيارة ثمان ركعات، أي صلِّ لكل إمام ركعتين‎.‎

والحمد لله ربّ العالمين جعلنا الله تعالى من المُتمسكين بحبل الله المتين مُحمّد وآل مُحمّد صلوات الله عليهم أجمعين‎.‎‎ ‎

   

أضف تعليق


كود امني
تحديث