اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم والعن أعدائهم

 
اسم البحث او المقالة : رسالة وجيزة في المُراد من البصمة الوراثيّة، وحُكمها في الشّريعة المُقدّسة
الكاتب : الدكتور العلامة الشّيخ عبد الكريم العُقيلي
الموضوع : فقه
تاريخ النشر : 1427



بسم الله الرّحمن الرّحيم

رسالة وجيزة في المُراد من البصمة الوراثيّة، وحُكمها في الشّريعة المُقدّسة(1)

يَنبغي قبل الإجابة عن ما ذُكر من السّؤال، التّمهيد بمُقدّمة لازمة، تُساعد على إعطاء الإنطباع الصّحيح عن مثل هذا الموضوع المُستجد في عصرنا، فنقول وبالله المُستعان وعليه التُكلان:
إنّ البصمة الوراثيّة، و التي يرمز إليها "DNA"- كما أشارت الدّراسات العلميّة الحديثة - هي المادة الوراثيّة الموجودة في خلايا جميع الكائنات الحيّة، وهي التي تجعلك مُختلفاً عن الآخرين تماماً، وهذه البصمة الوراثيّة لم تُعرف حتّي عام 1984ميلادي، حينما نشر الدّكتور "أليك جيفر يز" عالم الوراثة بجامعة "ليستر" بلندن، بحثا أوضح فيه، أنّ المادة الوراثيّة قد تتكرّر عدّة مرّات، وتعيد نفسها في تتابعات عشوائيّة غير مفهومة. ثمّ واصل أبحاثه حتّى توصّل بعد عام واحد، إلى أنّ هذه التّتابعات مُتمايزة بين كُلّ فرد، ولايُمكن أن تكون بين اثنين الاّ في حالات التّوائم المُتماثلة فقط، بل إنّ احتمال تشابه بصمتين وراثيّتين بين شخص و آخر هو واحد في التريليون، ممّا يجعل التّشابه مُستحيلاً، لأنّ سُكان الأرض لا يتعدّون الميليارات السّتة، وأطلق على هذه التّتابعات اسم البصمة الوراثيّة للإنسان، وعرفت على أنّها وسيلة من وسائل التّعرّف على الشّخص، عن طريق مُقارنة مقاطع "DNA" وتُسمى في بعض الأحيان الطّبعة الوراثيّة. وبهذا الصّدد قال أحد المُختصّين في دائرة الأدلّة الجنائيّة: إنّ البصمة الوراثيّة، هي طريق فحص المادة الوراثيّة، الموجوده ضمن نواة الخلية، وتعني الحامض ال دي بي منقوص الاكسيجن، و هو موجود في كُلّ الأنسجة و السّوائل البشريّة، وهي فحوصات تُحدد السّمات الجينيّة، التي يرثها الشّخص من الوالدين، مُناصفة، و هي (23) موروث "كروموزوم" من الأم، و(23) "كروموزوم" من الأب. وتُؤخذ من جميع أجزاء الجسم، من دماء إفرازات منويّة أو مهبليّة، حتّى من الشّعر، و هي لا تتأثّر بالتّغييرات التي تحدُث لهذه الإفرازات، مثل التّعفن, التّحاليل و غيرها، إضافة إلى ميزات أخرى، يُمكن الحصول عليها من معلومات قيّمة، وقد دعت الحاجة إلى تولّي المُنظمة الإسلاميّة للعُلوم الطّبيّة، في تحضير نخب من الفُقهاء والقُضاة والمُحامين وغيرهم، للتعرّف على البصمة الوراثيّة؛ تنويراً للرّأي العام، حتّى لا تنفق الأمة الإسلاميّة وقتاً طويلاً في الجدل، والتّشكك في الأخذ بها، وتمخض عنها، أنّ العمل بها عمل آلي، يخضع لقواعد المهنة، بخصوص التّعدد، وقد تشترط المهنة التّعدد إلى ثلاثة أو أكثر، وكذلك الأخذ بها لا يلغي العمل باللعان، في حال الاتهام بالزّنا. كما أنّه قرّرت المُنظمة كون البصمة لا تزيد على أنّها قرينة، وقد استقر العمل بها في محاكم اُروبا وأمريكا. لذا فهي من النّاحية العلميّة، وسيلة لا تكاد تُخطىء، في التّحقق من الوالديّة البيولوجيّة، والتّحقق من الشّخصيّة، لا سيّما في مجال الطّب الشّرعي، وهي ترقى إلى مُستوى القرائن، التي يأخُذ بها بعض الفُقهاء، في غير الحدود الشّرعيّة، ومن هُنا قرّر المُشاركون في هذا المؤتمر العلمي، ضرورة توفّر الضّوابط الآتية، عند إجراء تحليل البصمة الوراثيّة:
الضابط الأوّل: بأن لا يتُم إجراء التّحليل الاّ بإذن من الجهة الرّسمية المُختصّة.
الضابط الثّاني: بأن يجري التّحليل في مُختبرين على الأقل، مُعترف بهما، وأن تؤخذ الاحتياطات اللازمة؛ لضمان عدم معرفة أحد المُختبرات، التي تقوم باجراء الاختبار، بنتيجة المُختبر الآخر.
الضابط الثّالث: يُفضّل أن تكون هذه المُختبرات تابعة للدّولة، وإذا لم يتوفر ذلك يُمكن الاستعانة بالمُختبرات الخاصّة، الخاضعة لإشراف الدّولة، ويشترط على كُلّ حال أن تتوفّر فيها الشّروط والضّوابط العلميّة المُعتبرة، محلّيّاً وعالميّاً، في هذا المجال.
الضابط الرّابع: يُشترط أن يكون القائمون على العمل في المُختبرات، المنوطة بإجراء تحاليل البصمة الوراثيّة، ممّن يوثق بهم علماً وخُلقاً، وأن لا يكون أيّ منهم ذا صلة قرابة أوصداقة أوعداوة أومنفعة بأحد المُتداعيين، أو حُكم عليه بحُكم مُخل بالشّرف، أو الأمانة.
ومن الجدير ذكره، أنّه قد شاع انتشار العمل بها؛ لأنّها لو استمرت عزيزة نادرة ما حازت الرّضا والقبول لدى الجمهور العام، وهي في الواقع العمل بالمُمكن المُشاهد، وتفسير للنّصوص بأدوات العصر، ولم يكُن في المقدور الحُكم بما هو أبعد من ذلك، خصوصاً مع مُلاحظة تكرّر التّجارب، ولم تقع حالة بحيث يشتبه في موردها مع أحد من البشر، واليوم قد امتنّ الله على البشريّة بنور العلم، وتعرّفوا على البصمة الوراثيّة، باعتبارها دليلاً راجحاً، يولد حالة الاطمئنان على أنّها لا تنافي الأمارات الشّرعيّة، بل على العكس، هي طريق علمي، يوصل إلى تحقّق الموضوع، وبموجبه تؤمّن الحُكم الشّرعي، وتتزايد الحاجة إليها في هذا العصر، الذي تفجّرت فيه الوسائل العلميّة والتّقنيّة، وقد عايشنا حالة الغياب للكثير من النّاس، إمّا بالقتل الجماعي أو الموت الفجائي، ولم يتم التّعرف على هويّة هؤلاء، أو فقد جمع ممّن انتشل رفاتهم من قاع المُحيط، كما حدث ذلك على أثر الطائرة المصريّة "بوينج707" وبذلك فقد تمّ التّعرف على الأشخاص من خلال البصمة الوراثيّة، الأمر الذي ترتّب عليه تحديد أهالي المفقودين وهويات أبنائهم وأقربائهم، وما إلى ذلك من حوادث الادعاء النّسبي أو نفيه، وهذا يتطلّب منّا دراسة دقيقة، لغرض إعداد الموضوع الذي ينصب بتحديده الحُكم الشّرعي، ولبيان هذا الحُكم في هذا المورد، نقول: إنّه يُمكن القول عن البصمة الوراثيّة، أنّها من الأمور الخارجيّة، والموضوعات الوجوديّة، حالها حال بقيّة الموضوعات التي تسهم في بيان الحُكم؛ لأنّ الحُكم فرع على موضوعه، والأحكام هي جعل إلهي، تتبع الموضوعات المُحقّقة، فإذا كان موضوع البصمة الوراثية يورث العلم أو الإطمئنان، فأنّه حينئذ يتجه إليه الحُكم بالحلّيّة أو الحُرمة تكليفاً، أو الصّحة والبُطلان في النّسب و غيره وضعاً، ولا تفوتنا الإشارة إلى أنّ اعتمادها فيما لوأفاده العلم أو الاطمئنان لا على كُلّ حال، مُقتصرين على فرض التّنازع في النّسب، وإلاّ فالقاعدة الشّرعيّة قائمة على إدعاء المُدّعي المُطابق للأمارات الشّرعيّة. فافهم جيداً واغتنم راشداً 

عبد الكريم العُقيلي
17-2-2006