- التفاصيل
- المجموعة: السّرّ السّادس
بسم الله الرّحمن الرّحيم
قال الله تعالي في مُحكم كتابه الكريم:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)(1)
صدق الله العليّ العظيم
أسرار قُرانيّة في حقائق وأنوار مُحمّد وآل مُحمّد صلوات الله عليهم
السّرّ السّادس
في إثبات ضرورة وجود الإمام المعصوم في كُلّ آن ومكان.
قال الحقّ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ.(2)
تقريب الاستدلال:
لا شكّ أنّ الآية منطوقاً دالّة على امتثال وجوب الكون مع الصّادقين، وذلك لظهور صيغة الأمر( كونوا) في الوجوب، إن لم نقل بنصّها عليه في مثل المقام, وحينئذ يأتي الكلام في أنّ الأوامر الإلهيّة الصّادرة، لا تـنزل إلى ساحة الجعل والتّـقنين إلاّ بعد تحقّق أمرين هامّين:
الأمر الأوّل: الفراغ من وجود مُتعلّق الأمر، وهو في المقام عبارة عن اتّّباع الصّادقين، ليكون الأمر به أمراً واقعيّاً, حاله حال الأوامر المُسجّلة في الصّلاة والصّوم والحجّ والزّكاة وغيرها, فإنّه لابدّ من تحقّق الهيئة الخاصّة في مثل الصّلاة، كقوله صلّى الله عليه وآله: صلّوا كما رأيتموني أُصلّي(3). ليتعلّق بها الأمر, وكذا الحجّ، فإنّه لا يُمكن الأمر به إلاّ بعد تحقّق المناسك الخاصّة به، كوجود الكعبة للطواف عليها، والمواقف الكريمة والمشاهد الشّريفة وما إلى ذلك, وعلى هذا فلا يُناقش أحد في ضرورة وجود المأمور به، ليصحّ الأمر به، وبالتّالي امتثاله من قبل المأمورين بذلك, وعليه فما الفرق بين قوله تعالى: " وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (4) وقوله جلّ وعلا: وكونوا مع الصّادقين. فإنّ الآيتين ـ لمن تأمّل وتدبّر ودققّ النّظر فيهماـ على وزان واحد, حيث تعلّق الأمر في الأوّل بالصّلاة, وفي الثّانية بالكون مع الصّادقين, ومعلوم أنّ الصّلاة لا بدّ من تحققّها, ليصدر الأمر بالإتيان بها وامتثالها, وكذلك بالنّسبة إلى الكون مع الصّادقين، فإنّه لا محالة من تحقّق كونهم ووجودهم, وكذا فإنّ الصّلاة ليست مُتعلّقة بأهل ذلك الزّمان، أي في عصر الخطاب, بل هي مطلوبة ومقصودة من كُلّ المُخاطبين بها، وفي كُلّ زمان ومكان حتّى قيام السّاعة, والأمر كذلك بالنّسبة إلى الكون مع الصّادقين، فإنّه ليس خاصّاً بعصر المُخاطبين, بل يعمّهم وأهل الأزمنة والأمكنة كُلّهم, وخير دليل على ما ذُكر، الوجدان والعيان وسائر التّقنيات لدى العُقلاء، وبعبارة أدقّ، سير العُقلاء القاضية بوجود المُتعلّق للأمر عند صدوره، وإلاّ كان الأمر به لغواً, فتدبّر، فإنّه دقيق وبالنّظر حقيق، وما أوتيته عن أمري، ذلك من فضل ربّي.
الأمر الثّاني: كون المأمور به مقدوراً، بمعنى أن يكون تحت اختيار المُكلّف، بحيث يُمكنه الفعل أو التّرك بإرادته, بخلاف ما لو كان خارجاً عن اختياره – إمّا لكونه ضروري الوقوع، كدقّات القلب, أو ضروري التّرك كالطّيران إلى السّماء, أو لأنّه قد يحصل وقد لا يحصل، ولكنه في حالات حصوله يحصل من دون اختيار المُكلّف، كما في نبع الماء من تحت الأرض, فإنّ الماء قد ينبع وقد لا ينبع، وفي حالات نبعه، ينبع من دون اختيار المُكلّف - فإنّه يكون غير مقدور. ولاشكّ فيه ولا ريب يعتريه، في أنّ الأمر في موردنا، هو من الأوامر التي يكون فيها المأمور به مقدوراً، باعتبار أنّ الطّلب قد تعلّق باتّباع من صدق فيه بشكل تامّ " الصّادقون" .
فائدة: قد يقول قائل، بأنّه ما هو الغرض من هذا الاعتبار والجعل؟ فإنّا نقول: إنّ الفائدة يُمكن تصوّرها بشكلين:
الشّكل الأوّل: إطلاع المُكلّفين على اشتمال التّكليف بالاتّباع للصّادقين، على الحبّ والمصلحة الإلهيّتين.
الشّكل الثّاني: تحريك المُكلّفين نحو مواصلة الاتّباع والانصياع للصّادقين، وبعثهم لهما, وإن كان الغرض الواقعي هو التّحريك، لا مجرّد الإخبار عن وجود المصلحة والشّوق، فقوله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (5).
يدلّ على التّحريك نحو الحجّ أيضاً، لا على وجود المصلحة والشّوق فقط. وعلى هذا يترتّب، إنّه إن كان المأمور به موجوداً ومقدوراً، فلا محالة يتحقّق استحقاق العقوبة على تركه بعد جعل التّكليف عليه، ومخالفته له, بل لو لم يحصل الامتثال بالاتباع لهم، فإنّه يساوق عدم تحقّق شيء بالنّسبة إلى الغرض الإلهي, وذلك لترتّب سائر الامتثالات الأخرى في الفروض، على هذا الأمر الأساسي, فإنّه في الواقع يُمثّل المركز الأوّل والمُنطلق الابتدائي لتقييم العمل- سواء كان من العبادات أو من المعاملات- على ضوئه. والحاصل، إنّه إذا تبيّن لك ضرورة وجود الصّادقين، والقُدرة على امتثال اتّباعهم، فإنّه يثبت بذلك أنّ الصّادق لا يخلو منه زمان أو مكان؛ ليصدق الطّلب الإلهي ولا يكون لغواً, لأنّه عندما أمر بالكون مع الصّادقين، ومن الضّروري أنّ الخطاب مُتعلّق بالمُكلّفين كافّة، سواء كانوا في عصر الخطاب أو ما بعده من العصور، إلى قيام السّاعة, بداهة كون القُرآن المجيد تبياناً لكُلّ شيء، على مدى العُصور والدّهور، فإنّه لابدّ أن يكون الصّادق موجوداً؛ ليتحقّق امتثال الأمر, فافهم تغنم، وسارع تسبق.
وبعد تماميّة هذا المطلب، ننتقل إلى مطلب آخر، وهو: إنّ المأمور به، وهو الكون مع الصّادقين، لابدّ أن يكون الاتّباع له صحيحاً وسليماً، بعد الفُراغ من المُراد من قوله تعالى: وكونوا مع الصّادقين. فهل هم من يصدق عليه طروّ الخلل والنّقص، والوقوع في المُخالفة الشّرعيّة, أم خصوص من اجتمعت فيه الصّفات الكماليّة؟ لاشكّ عقلاً أنّ الأمر الإلهي لا يدعو إلى اتّباع النّاقص، الذّي يصدر منه المُخالفة الشّرعية؛ لأنّه يستلزم المحذور المحال على الحكيم الخبير, مثل، التّغرير بالعباد والتّضليل لهم, فإنّهم لو رأوا من أمروا باتباعه يرتكب الذّمائم من الأمور، والنّقائص المشينة؛ لأعابوا عليه ذلك, الأمر الذي يستلزم الإعابة على من أمر به، وهو قبيح. إذن، لم يبق للعاقل السّليم إلاّ التّسليم، بأنّ المُراد من الصّادقين، هو من كان كاملاً تامّاً سويّاً، خلقاً وخُلقاً ومنطقاً, وهذا بحسب الحقيقة لا يتمّ إلاّ فيمن شهد لهم الكتاب العزيز، بقوله عزّ وجلّ: إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (6)" ومن المُسلّم به، أنّ الآية لا تنطبق تمام الانطباق حصراً، إلاّ على عليّ وفاطمة والحسن والحُسين والأئمة المعصومين عليهم السّلام, ثمّ إنّه إذا تعيّن المطلوب، وظهر المقصود ينكشف لنا ببركة المنطوق الشّريف، عدّة لوازم قطعيّة:
اللازم الأوّل: صدق العصمة المُطلقة للصّادقين، وذلك بلحاظ التّـنزيه التّامّ لهم، بمُقتضى الأمر بالاتّباع، وهو أمر قطعيّ، لا غبار عليه.
اللازم الثّاني: تماميّة العلم الإلهي لهم، بما كان أو يكون وما هو كائن؛ وذلك لبداهة أنّ الأمر بالكون معهم شاهد قطعي، على تمام قُدرتهم، في جميع المُستلزمات الوجوديّة الشّرعيّة، والشّرعيّة الوجوديّة, ويؤيّد ذلك قول أمير المؤمنين عليه السّلام:" سلوني قبل أن تفقدوني
. نقل الشّيخ الصدوق، أعلى الله تعالى مقامه، عن الأصبغ بن نباتة، قال: لما جلس عليّ عليه السّلام في الخلافة وبايعه النّاس، خرج إلى المسجد مُتعمماً بعمامة رسول الله صلّى الله عليه وآله، لابساً بُردة رسول الله صلّى الله عليه وآله، منتعلاً نعل رسول الله صلّى الله عليه وآله، متقلداً سيف رسول الله صلّى الله عليه وآله، فصعد المنبر، فجلس عليه مُتمكناً، ثمّ شبك بين أصابعه، فوضعها أسفل بطنه، ثمّ قال: يا معشر النّاس، سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله صلّى الله عليه وآله، هذا ما زقّني رسول الله صلّى الله عليه وآله زقاً زقاً، سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين، أما والله، لوثُنيت لي وسادة، فجلست عليها، لأفتيت أهل التّوراة بتوراتهم، حتّى تنطق التّوراة، فتقول: صدق عليّ، ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم، حتّى ينطق الإنجيل، فيقول: صدق عليّ ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ، وأفتيت أهل القُرآن بقُرآنهم، حت~ى ينطق القرآن فيقول : صدق علي ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله في ، وأنتم تتلون القُرآن ليلاً ونهاراً، فهل فيكُم أحد يعلم ما نزل فيه؟ ولولا آية في كتاب الله عزّوجلّ لاخبرتكم بما كان وبما يكون، وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية: يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ. ثمّ قال عليه السّلام: سلوني قبل أن تفقدوني، فو الذي فلق الحبة وبرأ النّسمة، لو سألتموني عن أية آية، في ليل أُنزلت، أو في نهار أنزلت، مكيها ومدنيها، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها، ومُحكمها ومُتشابهها، وتأويلها وتنزيلها، إلا أخبرتكُم. فقال إليه رجل يقال له ذعلب، وكان ذرب اللسان، بليغاً في الخُطب، شجاع القلب، فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة، لاخجلنه اليوم لكُم في مسألتي إيّاه. فقال: يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربّك؟ فقال: ويلك! يا ذعلب، لم أكن بالذي أعبد ربّاً لم أره. قال: فكيف رأيته؟ صفه لنا. قال: ويلك ! لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القُلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب، إنّ ربّي لا يوصف بالعبد ولا بالحركة ولا بالسّكون...هو في الأشياء على غير مُمازجة، خارج منها على غير مُباينة، فوق كُلّ شئ، ولا يُقال شئ فوقه، أمام كُلّ شئ ولا يُقال له أمام، داخل في الأشياء لا كشئ في شئ داخل، وخارج منها لا كشئ من شئ خارج. فخر ذعلب مغشياً عليه، ثمّ قال: تا لله، ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله، لا عدت إلى مثلها. ثم ّقال عليه السّلام: سلوني قبل أن تفقدوني. فقام إليه الأشعث بن قيس، فقال: يا أمير المؤمنين، كيف تؤخذ من المجوس الجزية ولم ينزل عليهم كتاب، ولم يبعث إليهم نبيّ؟ فقال: بلى يا أشعث، قد أنزل الله عليهم كتاباً، وبعث إليهم نبيّاً، وكان لهم ملك سكر ذات ليلة، فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها، فلمّا أصبح تسامع به قومه، فاجتمعوا إلى بابه، فقالوا: أيّها الملك، دنست علينا ديننا فأهلكته، فاخرج نُطهرك ونقم عليك الحدّ. فقال لهم: اجتمعوا واسمعوا كلامي، فإن يكُن لي مخرج ممّا ارتكبت، وإلا فشأنكم. فاجتمعوا، فقال لهم: هل علمتم أنّ الله عزّ وجلّ لم يخلق خلقاً أكرم عليه من أبينا آدم، وأمّنا حوّاء؟ قالوا: صدقت أيّها الملك. قال: أفليس قد زوّج بنيه من بناته، وبناته من بينه؟ قالوا: صدقت، هذا هو الدّين، فتعاقدوا على ذلك، فمحا الله ما في صدورهم من العلم، ورفع عنهم الكتاب، فهم الكفرة، يدخلون النّار بلا حساب، والمُنافقون أشدّ حالاً منهم. فقال الأشعث: والله، ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله، لا عدت إلى مثلها أبداً. ثمّ قال عليه السّلام: سلوني قبل أن تفقدوني. فقام إليه رجل من أقصى المسجد، متوكئاً على عكّازة، فلم يزل يتخطّى النّاس حتّى دنا منه، فقال: يا أمير المؤمنين، دلّني على عمل إذا أنا عملته نجّاني الله من النّار. فقال له: اسمع يا هذا، ثمّ افهم، ثمّ استيقن، قامت الدّنيا بثلاثة: بعالم ناطق، مُستعمل لعلمه، وبغني لا يبخل بماله على أهل دين الله عزّوجلّ، وبفقير صابر، فإذا كتم العالم علمه، وبخل الغني، ولم يصبر الفقير، فعندها الويل والثّبور، وعندها يعرف العارفون بالله، أنّ الدّار قد رجعت إلى بدئها، أي إلى الكُفر بعد الإيمان. أيّها السّائل، فلا تغترّن بكثرة المساجد، وجماعة أقوام أجسادهم مُجتمعة، وقُلوبهم شتّى. أيّها النّاس، إنّما النّاس ثلاثة: زاهد، وراغب، وصابر، فأمّا الزّاهد فلا يفرح بشئ من الدّنيا أتاه، ولا يحزن على شئ منها فاته، وأمّا الصّابر فيتمنّاها بقلبه، فإن أدرك منها شيئاً، صرف عنها نفسه، لما يعلم من سوء عاقبتها، وأمّا الرّاغب فلا يُبالي من حلّ أصابها أم من حرام. قال: يا أمير المؤمنين، فما علامة المؤمن في ذلك الزّمان؟ قال: ينظر إلى ما أوجب الله عليه من حقّ فيتولاه، وينظر إلى ما خالفه فيتبرّأ منه، وإن كان حبيباً قريباً. قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، ثمّ غاب الرّجل فلم نره، وطلبه النّاس فلم يجدوه، فتبسّم عليّ عليه السّلام على المنبر، ثمّ قال: ما لكم، هذا أخي الخضر عليه السّلام. ثمّ قال عليه السّلام: سلوني قبل أن تفقدوني. فلم يقم إليه أحد، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه صلّى الله عليه وآله. ثمّ قال للحسن عليه السّلام: يا حسن، قُم فاصعد المنبر، فتكلّم بكلام لا تجهلك قُريش من بعدي، فيقولون: إنّ الحسن لا يحسُن شيئاً. قال الحسن عليه السّلام: يا أبه، كيف أصعد وأتكلم وأنت في النّاس تسمع وترى؟ قال: بأبي وأمّي أواري نفسي عنك، وأسمع وأرى ولا تراني. فصعد الحسن عليه السّلام المنبر، فحمد الله بمحامد بليغة شريفة، وصلّى على النّبيّ وآله صلاة موجزة، ثمّ قال: أيّها النّاس، سمعت جدي رسول الله صلّى الله عليه وآله، يقول: أنا مدينة العلم وعليّ بابها، وهل تدخل المدينة إلاّ من بابها، ثمّ نزل، فوثب إليه عليّ عليه السّلام، فتحمّله، وضمّه إلى صدره. ثمّ قال للحُسين عليه السّلام: يا بني، قُم فاصعد فتكلّم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي، فيقولون: إنّ الحُسين بن عليّ لا يبصر شيئاً، وليكُن كلامك تبعاً لكلام أخيك، فصعد الحُسين عليه السّلام، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه وآله، صلاة موجزة، ثمّ قال: معاشر النّاس، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وهو يقول: إنّ عليّاً مدينة هُدى، فمن دخلها نجا، ومن تخلّف عنها هلك. فوثب عليّ عليه السّلام، فضمه إلى صدره وقبّله، ثمّ قال: معاشر النّاس، اشهدوا أنّهما فرخا رسول الله صلّى الله عليه وآله، ووديعته التي استودعنيها، وأنا استودعكموها. معاشر النّاس، ورسول الله صلّى الله عليه وآله سائلكم عنهما.(7) وشهادة القُرآن المجيد له، بقوله: كَفَى بِالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ "(8) وقوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (9). اللازم الثّالث: تحقّق الإمامة المُطلقة على الصّعيدين، التّكويني والتّشريعي، كما قال عزّ وجلّ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً (10) وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ(11) ويشهد لهذه الحقائق المركوزة في بطن الآية، تقديم الأمر بالتّقوى لغرض الإعداد والاستعداد؛ لأنّها في واقع تفسيرها - التّقوى - هي الوقاية من الأرجاس والأدناس والشّوائب، فإنّه إذا تمّ ذلك, تمّ اللقاء والكون مع عين الطُّهر والطّهارة، وأصل كُلّ طُهر وطاهر . اللازم الرّابع: وجوب اتّباع خلافته وحكومته على أهل الآفاق كافّة, الأمر الذي يلزم الخلائق باتباعه في ما يأمر وينهى، في الأمور كُلّها، الخاصّ منها والعامّ، كالسّلم والحرب وغيرهما, وعليه فلا يصحّ تبعيض الاتباع في جانب دون آخر, ممّا يلزم التّصدّع، وهو غير مقبول وغير معقول, فلاحظ ما تلوته عليك من سحائب المشيئة، في ساحة سدرة المُنتهى, ما زاغ البصر وما طغى. وإن أبيت إلاّ المزيد في التّأييد والتّأكيد، فليس لك دواء إلاّ الذّكر الحكيم، وأقوال الصّادقين؛ لتزداد بصيرة بما يُتلى عليك, تاركاً التّعليق، فيما تقرأ وتتدبّر على فراستك وحكمتك, وأنت جدّ عليم, وفي البدء أعرض لك آيات الكتاب المُبين, ثمّ أنتقل بك إلى ما صدع به الميامين، سلام الله عليهم أجمعين. أمّا الآيات الكاشفة عن مراتب الصّادقين، فمنها:
قوله تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(12). وقوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13). وقوله تعالى: قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (14). وقوله تعالى: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (15). وقوله تعالى: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ(16). وقوله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17). وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (18). وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (19). وقوله تعالى: قالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (20). وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(21). وقوله تعالى: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(22). وقوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ(23). وقوله تعالى: قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(24). وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(25). وقوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(26). وأمّا الرّوايات المُصرّحة في تطبيق الصّادقين، على آل مُحمّد، عليهم سلام ربّ العالمين, وأنّه لولاهم لساخت الأرض بأهلها، فهي مجموعة كبيرة، نقطع بصدورها؛ لاشتمالها على الصّحاح، وموافقتها للعقل, بل أورد السّيّد هاشم البحراني رحمه الله، في غاية المرام، من طرق العامّة، سبعة أخبار، نصّت على أنّ الصّادقين، هم أهل بيت النّبيّ عليهم السّلام, ولا أظن فقيهاً يُناقش في صدورها، أو دلالتها على المقصود. أستهلّ البحث برواية، لو كانت وحدها لكفت، وأغنت، وهي صحيحة أبان بن تغلب, عن أبي عبد الله عليه السّلام، أنّه قال: الحُجّة قبل الخلق، ومع الخلق، وبعد الخلق.(27) إرجع البصر أيّها الحبيب، هل ترى من غموض؟ فقد كفاك ما أريناك. ومُعتبرة إسحاق بن عمار, عن أبي عبد الله عليه السّلام، قال: سمعته يقول: إنّ الأرض لا تخلو إلاّ وفيها إمام, كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردّهم, وإن نقصوا شيئاً أتمّه لهم(28). وقد أود الكُليني طاب ثراه، الأخبار المُستفيضة، في ضرورة كون الإمام في كُلّ زمان، فراجع تغنم.
وأمّا الرّوايات التي وردت في شأن الصّادقين عليهم السلام، فإنّ الكُليني طاب ثراه قد أفرد باباً، تحت عنوان: ما فرض الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وآله، من الكون مع الأئمة(29).
منها: ما أورده بسنده عن بريد بن معاوية العجلي، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام، عن قول الله عزّ وجلّ: اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ، قال: إيّانا عنى(30). وصحيحة ابن أبي نصر,عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام، قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ، قال: الصّادقون هم الأئمة، والصّدّيقون بطاعتهم(31). وعن ابن شهر آشوب، من تفسير أبي يوسف يعقوب بن سفيان، حدّثنا مالك ابن أنس، عن نافع، عن ابن عُمر، قال: وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ، يعني مع مُحمّد وأهل بيته عليهم السّلام(32). وجاء في الدّر المنثور للسّيوطي، عن ابن مردويه، عن ابن عباس، وأيضاً عن ابن عساكر، عن أبي جعفر، في قوله: وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ، قال: مع عليّ بن أبي طالب(33). وعن الاحتجاج، وعن جعفر بن مُحمّد، عن أبيه، عن جدّه، عليّ بن الحُسين عليه السّلام، قال: نحن أئمة المُسلمين، وحُجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغُرّ المُحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض، كما أنّ النّجوم أمان لأهل السّماء، ونحن الذين بنا يمسك السّماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تُميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وينشر الرّحمة، وتخرج بركات الأرض... ثمّ قال: ولم تخلو الأرض منذ خلق الله آدم من حُجّة لله فيها، ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم السّاعة من حُجّة الله، ولولا ذلك لم يُعبد الله(34). وأخيرا فماذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال, هذا ما أردنا بيانه في هذا المطلب الهامّ, ليحيا من حيّ عن بيّنة، وليهلك من هلك عن بيّنة, والحمد لله أوّلاً وآخراً، والصّلاة والسّلام على النّبيّ وآله، عدد ما في علمه، ودوام مُلكه.
والحمد لله ربّ العالمين
هذه مُقتطفات قصيرة من الأنوار الإلهيّة، والأسرار الرّبانيّة، المودعة في كتاب الله الكريم، والمُتحصلة في الخارج بأرباب النّعم وهُداة الأمم، مُحمّد وآل مُحمّد، صلوات الله عليهم أجمعين، نحن مستعدون للحوار في بيانها، والإجابة على الاستفسارات التي يطرحها الأخوة والأخوات؛ ليكون البحث واضحاً والغرض مُتحققاً، جعلنا الله وإيّاكم، من العارفين بحقّ مُحمّد وآل مُحمّد، صلوات الله عليهم، والعاملين بذلك، والمحشورين في زُمرتهم، إنّه سميع مُجيب ، والله من وراء القصد.
عبد الكريم العُقيلي
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش
1 – هذه رسالة، بل سرّ من أسرار آل مُحمّد صلوات الله عليهم، في ضرورة وجود الإمام المعصوم في كُلّ آن ومكان، ولولا ذلك لساخت المجرة الوجودية بأكملها، وتفانت عن الوجود والموجود.وقد أجاد سماحة العلامة آية الله الحاج الشّيخ عبد الكريم العقُيلي لإظهار بعض كوامنها. فالتّصديق والإذعان لها، يحتاج إلى قلب مُنشرح بالإيمان، فالعلم نور يقذفه الله بقلب من يشاء.
2 - التّوبة: 119.
3 – بحار الأنوار: 79 / 335، النّاصريات: 11و218, الخلاف: 1 /314, غُنية النّزوع لابن زهرة الحلبي:79, المُعتبر: 2 /118, الرّسائل التّسع للمُحقق الحلّي:112, كتاب المُسند للشّافعي: 55, السّنن الكُبرى للبيهقي: 2 /345, شرح مُسلم للنّووي: 4 /96, فتح الباري لابن حجر: 2 /59, حاشية السّندي على النّسائي لابن عبد الهادي: 2/23.
4 – البقرة: 43.
5 – آل عُمران: 97.
6 – الأحزاب: 33.
7 – الأمالي: 422.
8 – الرّعد: 43.
9 – يس: 12.
10 – البقرة: 124.
11 – السّجدة:34.
12 - البقرة: 23.
13 - البقرة: 31.
14 - البقرة: 94.
15 - البقرة: 111.
16 - آل عُمران: 17.
17 - آل عُمران: 93.
18 - آل عُمران: 168.
19 - آل عُمران: 183.
20 - المائدة: 119.
21 - الأنعام: 40.
22 – الأنعام: 143.
23 - الأنعام: 146.
24 - الأعراف: 70.
25 - الحُجرات: 15.
26 - الحُجرات: 17.
27 - الكافي: 1 / 177. بصائر الدّرجات للصّفار: 507، الإمامة والتّبصرة لابن بابويه القُمّي: 135.
28 – الكافي: 1/ 178 ح 2.
29 – الكافي: 1 / 208.
30 – الكافي: 1 / 208 ح1.
31 – الكافي: 1 / 208 ح2.
32 - مناقب آل أبي طالب: 2 / 288.
33 - الدّر المنثور: 3 / 289.
34 - الاحتجاج: 2 / 48.