اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم والعن أعدائهم

الموضوع : عقائد
تاريخ النشر : 18/10/2006

بسم الله الرّحمن الرّحيم

رسالة في علّة خوف الإمام الحُجّة عجل الله تعالى فرجه(1)

الأُخت الكريمة، العلويّة المُهذّّبة
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سؤالكم الكّريم ينبع عن دراية ومعرفة وفهم وإدراك, نسأل الله تعالى أن يكون خالصاً لطلب الحقّ والحقيقة ليس إلاّ, بعيداً عن الضّوضاء والمُغالطات والتُّعصبات, ويصبّ في مصلحة الإسلام والمُسلمين، راجين من المولى أنّ يُسدد خُطانا، ويأخذ بأيدينا لما فيه الخير والصّلاح.
فبخصوص سُؤالكم عن خوف الإمام الحُجّة عجّل الله تعالى فرجه، والمقايسة بينه وبين ما كان عليه الثّاني، فنقول: الجواب يقع في جهتين:

الجهة الأولى: في علّة خوف الإمام الحُجّة عجّل الله تعالى فرجه، ويقع البحث فيها في عدّة أمور.
الأمر الأوّل: في معنى الخوف وأقسامه.
الأمر الثّاني: فيما ورد من آيات وأحاديث بخصوص خوف الأنبياء عليهم السّلام، وتفسير ذلك الخوف، بمعنى، هل أنّ خوفهم كان ممدوحاً أمّ مذموماً؟
الأمر الثّالث: هل أنّ هناك فرقاً بين خوف الإمام الحُجّة المُنتظرعجّل الله تعالى فرجه وخوف الأنبياء عليهم السّلام؟
الأمر الرّابع: في الرّوايات الواردة في علّة خوف الإمام.
الجهة الثّانية: في المقايسة بين خوف الإمام الحُجّة وبين ما كان عليه الثّاني، وهل أنّ غزوات عُمر بن الخطاب كانت لصالح الإسلام ونشره أم أنّها جاءت بنتائج عكسية؟!
فنقول بعد التّوكل على الله:
أمّا الأمر الأوّل من الجهة الأولى، فقد ذكر ابن منظور في لسان الميزان: الخوف في اللّغة هو: الفزع. خافه يخافه خوفاً وخيفة ومخافة. (2)
وفي مُختار الصّحاح: خاف يخاف خوفاً وخيفة ومخافة، فهو خائف... والأمر منه خف - بفتح الخاء - والخيفة الخوف والأخافة التّخويف. (3)
وقال الزّبيدي في تاجه: خاف الرّجل يخاف خوفاً وخيفاً. (4)
وقال في تفسير القاضي: الخوف على المُتوقع والحزن على الواقع. (5)
وإنّ لفظة الخائف قد وردت في الكّتاب العزيز في آيات عدّة, منها بخصوص خوف بعض الأنبياء عليهم السّلام.
فقد ورد في شأن نبيّ الله داود، على نبيّنا وآله وعليه السّلام، حيث قال جلّ وعلا: إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ. (6)
قوله: ففزع منهم. قال الرّاغب: الفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشّيء المُخيف، وهو من جنس الجزع ولا يُقال: فزعت من الله، كما يُقال: خفت منه. انتهى.(7)
قال السّيد الطّباطبائي في تفسير الميزان:
إذا كان الفزع هو الانقباض والنّفار الحاصل من الشّيء المخوف، كان أمراً راجعاً إلى مقام العمل دون الإدراك، فلم يكُن رذيلة بذاته، بل كان فضيلة عند تحقّق مكروه ينبغي التّحرّز منه، فلا ضير في نسبته إلى داود عليه السّلام، في قوله: ففزع منهم، وهو من الإنبياء الذين لا يخشون إلاّ الله.
وقوله: قالوا لا تخف... لما رأوا ما عليه داود عليه السّلام من الفزع أرادوا تطييب نفسه وإسكان روعه، فقالوا: لا تخف. وهو نهي عن الفزع بالنّهي عن سببه الذي هو الخوف. (8)
وقال الشّيخ الطّوسي في التّبيان: قوله إذ دخلوا على داود ففزع منهم الآية، معناه إنّ هؤلاء حين دخلوا على داود من غير الجهة التي اعتاد الدّخول عليه منها فزع منهم؛ لأنّه ظنهم أعداءً يريدون به سوءاً. (9)
وقال الشّيخ الطّبرسي في بيانه: "إذ دخلوا على داود ففزع منهم"؛ لدخولهم عليه في غير الوقت الذي يحضر فيه الخصوم، من غير الباب الذي كان يدخل الخصوم منه، ولأنّهم دخلوا عليه بغير إذنه. " قالوا لا تخف خصمان " أي: فقالوا لداود: نحن خصمان. (10)
وجاء في الأصفى وجامع البيان بنفس المعنى.(11)
وأيضاً قد ورد في القرآن الكريم في شأن نبيّ الله إبراهيم، على نبيّنا وآله وعليه السّلام، حيث قال عزّ من قائل: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ. (12)
قال السّيد الطّباطبائي في ميزانه: وقوله: " قوم مُنكرون " الظّاهر أنّه حكاية قول إبراهيم في نفسه، ومعناه أنّه لما رآهم استنكرهم، وحدّث نفسه، أنّ هؤلاء قوم مُنكرون. (13)
وقال الشّيخ الطّوسي في التّبيان: فلمّا ارتاب عليه السّلام بهم، قال: قوم مُنكرون، أي أنتم قوم مُنكرون، والإنكار بنفي صحّة الأمن، ونقيضه الإقرار، ومثله الاعتراف. وإنّما قال: مُنكرون؛ لأنّه لم يكُن يعرف مثلهم في أضيافه. (14)
وقال القُرطبي في تفسيره: " قوم مُنكرون " أي أنتم قوم مُنكرون، أي غُرباء، لا نعرفكُم.
وقيل: لأنّه رآهم على غير صورة البشر، وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم فنكرهم، فقال: " قوم مُنكرون". وقيل: أنكرهم لأنّهم دخلوا عليه من غير آستئذان. وقال أبو العالية: أنكر سلامهم في ذلك الزّمان وفي تلك الأرض. وقيل: خافهم، يقال: أنكرته إذا خفته. (15)
وقال سبحانه وتعالى: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ. (16)
قال صاحب الميزان: قوله تعالى: " فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف … " الفاء فصيحة والتّقدير: فلم يمدوا إليه أيديهم، فلمّا رأى ذلك نكرهم وأوجس منهم خيفة، والإيجاس الإحساس في الضّمير، والخيفة بناء نوع من الخوف، أي أضمر منهم في نفسه نوعاً من الخوف. وقوله: " قالوا لا تخف" جيء بالفصل لا بالعطف؛ لأنّه في معنى جواب سؤال مُقدر، كأنّه قيل: فماذا كان بعد ايجاس الخيفة فقيل: قالوا: لا تخف وبشروه بغلام عليم، فبدّلوا خوفه أمنة وسروراً، والمُراد بغُلام عليم إسماعيل أو إسحاق، وقد تقدّم الخلاف فيه. (17 )
وقال الطّبري في جامع بيانه: وقوله: وأوجس منهم خيفة يقول: أحسّ في نفسه منهم خيفة وأضمرها. قالوا لا تخف، يقول: قالت الملائكة لما رأت ما بإبراهيم من الخوف منهم: لا تخف منّا وكُن آمنا، فإنّا ملائكة ربّك، أرسلنا إلى قوم لوط. القول في تأويل قوله تعالى. (18)
وقال الكاشاني في تفسيره: " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه ". لايمدون إليه أيديهم " نكرهم ". أنكرهم " وأوجس منهم خيفة ". وأضمر منهم خوفاً، أن يريدوا به مكروها " قالوا لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط ". إنّا ملائكة، مرسلة إليهم بالعذاب، لا نأكل.(19)
وأيضاً قد ورد في القرآن الكريم في شأن نبيّ الله لوط، على نبيّنا وآله وعليه السّلام، حيث قال جلّ وعلا: وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ. (20)
وقال عز من قائل: فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ, قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. (21)
قال الطّبرسي في مجمع البيان: " فلما جاء آل لوط المُرسلون قال إنّكم قوم مُنكرون " وإنّما قال لهم لوط ذلك، لأنّهم جاءوه على هيئة وجمال لم ير مثلهم قط، فأنكر شأنهم وهيأتهم. وقيل: إنّه أراد: إنّي أنكركم فعرّفوني أنفسكم؛ ليطمئن قلبي. (22)
وقال الكاشاني في الأصفى: " قال إنّكم قوم مُنكرون " تـنكُركم نفسي وتنفر عنكُم، مخافة أن تطرقوني بشر. (23)
وفي شأن الكليم موسى بن عمران، على نبيّنا وآله وعليه السّلام، حيث قال الله تعالى: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. (24)
قال ابن كثيرفي تفسيره: "قال لا تخف الآية " يقول طب نفساً وقُر عيناً، فقد خرجت من مملكتهم فلا حُكم لهم في بلادنا. (25)
وقال السّيوطي في الجلالين: "قال لا تخف" الآية , إذ لا سلطان لفرعون على مدين.(26)
وقال بهذا المعنى ابن جرير في جامع البيان، وابن الجوزي في زاد المسير، والنّحاس في معاني القُرآن.(27)
وقال تعالى في آية أخرى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ. (28)
قال الشّيخ الطّوسي في التّبيان: وقوله: فأصبح في المدينة خائفاً يترقب، معناه: إنّ موسى أصبح خائفاً من قتل القُبطي، يترقب الأخبار - في قول ابن عباس - والتّرقب التّوقع.(29)
وقال الطّبرسي في مجمعه: " فأصبح " موسى في اليوم الثّاني " في المدينة خائفاً " من قبل القُبطي " يترقب " أي: ينتظر الأخبار في قتل القُبطي، عن ابن عباس. يعني أنّه خاف من فرعون وقومه، أن يكونوا عرفوا أنّه هو الذي قتل القّبطي، فكان يتجسّس، وينتظر الأخبار في شأنه. (30)
وعن ابن عباس فأصبح في المدينة خائفاً يترقب، قال: خائفاً من قتله النّفس، يترقب أن يؤخذ. (31)
وقال عزّ من قائل: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.(32)
قال الكاشاني في تفسيره الصّافي: فخرج منها خائفاً يترقب لحوق طالب، قال: ربّ نجنى من القوم الظّالمين. خلصني منهم، واحفظني من لحوقهم. (33)
وعن عبد الرزاق، عن مُعمر، عن قتادة في قوله تعالى:.... قال وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى، قال: هو مؤمن آل فرعون يسعى، قال: يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إنّى لك من النّاصحين، فخرج منها خائفاً يترقب، من قتل النّفس، يترقب أن يأخذه الطّلب. (34 )
وقال تعالى: وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ. (35)
قال السّيد الطّباطبائي في تفسيره: قوله تعالى: " يا موسى أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين " بتقدير القول، أي قيل له: أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين، وفى هذا الخطاب تأمين له، وبه يظهر معنى قوله في هذا الموضع من القصّة في سورة النّمل: " يا موسى لا تخف إنّى لا يخاف لديّ المرسلون ). (36) وأنّه تأمين، معناه إنّك مُرسل والمُرسلون آمنون لديّ، وليس من العتاب والتّوبيخ في شيء. (37)
وقال الشّيخ الطّوسي في التّبيان: وقوله : " ولّى مُدبراً، ولم يعقب " أي لم يرجع، أي خاف بطبع البشريّة وتأخر عنها ولم يقف، فقال الله تعالى له :" يا موسى اقبل ولا تخف إنّك من الآمنين " من ضررها. (38)
وقال الشّيخ الطّبرسي في المجمع: "ولّى مُدبراً " أي: رجع إلى ورائه " ولم يعقب " أي: لم يرجع، وكُلّ راجع مُعقب. المُفسرون يقولون: لم يلتفت، ولم يقف، فقال الله سبحانه: " يا موسى لا تخف إنّي لا يخاف لديّ المُرسلون " وهذا تسكين من الله سبحانه لموسى، ونهي له عن الخوف. يقول له: إنّك مُرسل، والمُرسل لا يخاف، لأنّه لا يفعل قبيحاً، ولا يخل بواجب، فيخاف عقابي على ذلك. (39)
وقال العزيز: يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا الله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. (40)
قال السّيد الطّباطبائي: قوله تعالى:
يموسى لا تخف إنّي لا يخاف لديّ المُرسلون، حكاية نفس الخطاب الصّادر هُناك ... وقوله: لا تخف، نهي مُطلق، يؤمنه عن كُلّ ما يسوء، ممّا يخاف منه، ما دام في حضرة القُرب والمُشافهة، سواء كان المخوف منه عصا أو غيرها. (41)
وقال الشّيخ الطّوسي: وقوله: يا موسى لا تخف. نداء من الله تعالى لموسى وتسكين منه، ونهي له عن الخوف. وقال له إنّك مُرسل و لا يخاف لدي المُرسلون؛ لأنّهم لا يفعلون قبيحاً، ولا يخلّون بواجب، فيخافون عقابه عليه، بل هم مُنزّهون عن جميع ذلك. (42)
وأمّا القُرطبي فقد قال في تفسيره: "ولّى مدبراً " خائفاً على عادة البشر " ولم يعقّب " أي لم يرجع، قاله مُجاهد. وقال قتادة: لم يلتفت. " يا موسى لا تخف " أي من الحيّة وضررها. (43)
وذكر ابن كثير في تفسيره، قال: " ولّى مدبراً ولم يعقّب " أي لم يلتفت من شدّة فرقه " يا موسى لا تخف إنّي لا يخاف لديّ المُرسلون " أي، لا تخف ممّا ترى فإنّي أريد أن أصطفيك رسولاً وأجعلك نبيّاً وجيهاً. (44)
وقال سبحانه وتعالى: أَلْقِهَا يَا مُوسَى.
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى. قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولى. (45)
قال صاحب الميزان: وقوله: قال خُذها ولا تخف سنُعيدها سيرتها، أي حالتها الأولى، وهي أنّها عصا، فيه دلالة على خوفه عليه السّلام ممّا شاهده من حيّة ساعية. (46)
وقال الطّبرسي: قوله " واضمم إليك جناحك " التّثنية. وقيل: إنّه لما ألقى العصا، وصارت حيّة، بسط يديه كالمُتقي وهما جناحاه.
فقيل له: اضمم إليك جناحك، أي: ما بسطته من يديك. والمعنى: لا تبسط يديك خوف الحيّة، فإنّك آمن من ضررها. ويجوز أن يكون معناه: اسكن ولا تخف، فإنّ من هاله أمر أزعجه حتّى كأنّه يطيره، وآلة الطّيران الجناح. فكأنّه عليه السّلام قد بلغ نهاية الخوف، فقيل له: ضم منشور جناحك من الخوف، وأسكن. وقيل: معناه إذا هالك أمر يدك، لما تبصر من شعاعها، فاضممها إليك لتسكن.(47)
وجاء في تفسير الصّافي، عن الصّادق عليه السّلام: ففزع منها موسى عليه السّلام وعدا فناداه الله عزّ وجل، خُذها ولا تخف سنُعيدها سيرتها الأولى، هيئتها وحالتها المُتقدّمة من السّير تجوز بها للطّريقة والهيئة. (48)
وعن وهب بن مُنبه، قال: ألقها يا موسى، فألقاها، فإذا هي حيّة تسعى تهتز، لها أنياب وهيئة كما شاء الله أن تكون، فرأى أمراً فظيعاً، فولّى مدبراً، ولم يعقب، فناداه ربّه: يا موسى، أقبل ولا تخف، سنُعيدها سيرتها الأولى. وقوله: قال: خُذها ولا تخف، يقول تعالى ذكره: قال الله لموسى: خذ الحيّة، والهاء والألف من ذكر الحيّة. ولا تخف يقول: ولا تخف من هذه الحيّة سنُعيدها سيرتها الأولى. (49)
وقال تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى. قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أنت الأعلى. (50)
قال الشّيخ الطّوسي في تبيانه: قوله فأوجس في نفسه خيفة موسى، قيل في وجه خيفته قولان: أحدهما - قال الجبائي والبلخي خاف أن يلتبس على النّاس أمرهم، فيتوهموا أنّه كان بمنزلة ما كان من أمر عصاه. الثّاني - إنّه خاف بطبع البشريّة، لما رأى من كثرة ما تخيل من الحيات العظام، فقال الله تعالى له: لا تخف إنّك أنت الأعلى، أي إنّك أنت الغالب لهم والقاهر لأمرهم.(51)
قال عليّ بن ابراهيم القُمّي في تفسيره: فأوجس في نفسه خيفة موسى، فنودي لا تخف أنّك أنت الأعلى، والق ما في يمينك تلقف ما صنعوا، إنّما صنعوا كيد ساحر، ولا يفلح السّاحر حيث أتى. فألقى موسى العصا فذابت في الأرض مثل الرّصاص، ثمّ طلع رأسها وفتحت فاها ووضعت شدقها العُليا على رأس قُبة فرعون، ثمّ دارت وأرخت شفتها السّفلى والتّقمت عصي السّحرة وحبالها، وغلب كُلّهم وانهزم النّاس، حين رأوها وعظمها، وهو لها ممّا لم تر العين ولا وصف الواصفون مثله، فقُتل في الهزيمة من وطي النّاس عشرة آلاف رجل وامرأة وصبي، ودارت على قبّة فرعون، قال: فأحدث فرعون وهامان في ثيابهما وشاب رأسهما وغشي عليهما من الفزع، ومرّ موسى في الهزيمة مع النّاس، فناداه الله خُذها ولا تخف سنُعيدها سيرتها الأولى. (52)
وقال تعالى: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى. قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى. (53)
قال السّيد الطّباطبائي في تفسير الميزان:
قوله تعالى: قالا ربّنا إنّنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى الفرط التّقدم، والمُراد به بقرينة مقابلته الطّغيان أن يعجّل بالعقوبة ولا يصبر إلى إتمام الدّعوة وإظهار الآية المعجزة، والمُراد بأن يطغى أن يتجاوز حدّه في ظلمه، فيُقابل الدّعوة بتشديد عذاب بني إسرائيل، والاجتراء على ساحة القُدس، بما كان لا يجترئ عليه قبل الدُعوة، ونسبة الخوف إليهما لا بأس بها.(54)
وقال الشّيخ الطّوسي: لما أمر الله موسى وهارون عليهما السّلام أن يمضيا إلى فرعون ويدعواه إلى الله، قالا: إنّنا نخاف أن يفرط علينا. ومعناه أن يتقدّم فينا بعذاب، ويعجل علينا، ومنه الفارط المُتقدّم أمام القوم إلى الماء، قال الشّاعر: قد فرط العجل علينا وعجل ومنه الافراط الإسراف، لأنّه تقدّم بين يدي الحقّ. والتّفريط التّقصير في الأمر، لأنّه تأخير عما يجب فيه التّقدّم. فالأصل فيه التّقدّم أو أن يطغي أو يعتوا علينا ويتجبّر، فقال الله تعالى لهما: لا تخافا ولا تخشيا إنّني معكما، أي عالم بأحوالكما، لا يخفى عليّ شئ من ذلك. وإنّي ناصر لكما، وحافظ لكما. (55)
وقال الفيض الكاشاني: " قالا ربّنا إنّنا نخاف أن يفرط علينا ": أن يعجل علينا بالعقوبة، ولا يصبر إلى إتمام الدّعوة وإظهار المعجزة " أو أن يطغى " أن يزداد طُغياناً، فيتخطّى إلى أن يقول فيك مالا ينبغي، لجرأته وقساوته، وإطلاقه من حسن الأدب. " قال لا تخافا إنّني معكما ": بالحفظ والنّصرة " أسمع وأرى " ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل، فأحدث في كُلّ حال ما يصرف شرّه عنكُما، ويوجب نصرتي لكُما.(56)
وقال ابن كثير: يقول تعالى إخباراً عن موسى وهارون عليهما السّلام أنّهما قالا، مستجيرين بالله تعالى شاكيين إليه: إنّنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى، يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبة أو يعتدى عليهما فيعاقبهما، وهما لا يستحقان منه ذلك. (57)
وقد ورد في الكتاب العزيز، في شأن النّبيّ الأعظم، صلّى الله عليه وآله، حيث قال جلّ وعلا: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.(58)
قال الشّيخ الطّوسي في تفسيره: ثمّ قال تعالى: فأنزل الله سكينته على رسوله، أي فعل به صلّى الله عليه وآله من اللطف والنّعمة ما سكنت إليه نفسه، وصبر على الدّخول تحت ما أرادوه منه وعلى المؤمنين، أي ومثل ذلك فعل بالمؤمنين وألزمهم كلمه التّقوى.(59 )
وقال عزّ من قائل في آية أخرى: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ. (60)
قال الشّيخ الطّوسي في التّبيان: قوله تعالى: ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين الآية. أخبر الله تعالى أنّه حين انهزم المُسلمون وبقي النّبيّ صلّى الله عليه وآله في نفر من قومه أنه أنزل السكينة، وهي الرحمة التي تسكن إليها النفس ويزول معها الخوف حتى رجعوا إليهم. وقاتلوهم وهزمهم الله تعالى بأن أنزل النصر وأنزل السكينة. وقيل السكينة هي الطمأنينة والامنة. وقال الحسن: هي الوقار. (61)
وقال القرطبي في تفسيره القرطبي: قوله تعالى: " ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين" أي أنزل عليهم ما يسكنهم ويذهب خوفهم، حتى اجترءوا على قتال المشركين بعد أن ولوا. (62)
وقال ابن كثير في تفسيره: قال تعالى: ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله، أي طمأنينته وثباته على رسوله وعلى المؤمنين، أي الذين معه. (63)
وقال ابن الجوزي في تفسيره: قوله تعالى: "أنزل الله سكينته" أي بعد الهزيمة. قال أبو عبيدة: هي فعلية من السّكون وأنشد لله قبر غالها ماذا يجن * لقد وهو أجن سكينة ووقاراً صلّى الله عليه وسلم، وكذلك قال المُفسرون: الأمن والطّمأنينة. (64)
وقال تعالى في آية أخرى: فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. (65)
عن الباقر عليه السّلام: ( فأنزل الله سكينته على رسوله )، قال: ألا ترى أنّ السّكينة إنّما نزلت على رسوله. (66) ...
وأمّا الرّوايات الشّريفة فقد أشارت وصرّحت في هذا الخُصوص، فمنها:
عن مُحمّد بن عليّ الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السّلام، قال: إكتتم رسول الله صلّى الله عليه وآله بمكة مختفياً خائفاً خمس سنين، ليس يظهر أمره وعليّ عليه السّلام معه وخديجة، ثمّ أمره الله عزّ وجل أن يصدع بما أمر به، فظهر رسول الله صلّى الله عليه وآله وأظهر أمره. 67
وعن مُحمّد بن مُسلم، قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: ما أجاب رسول الله صلّى الله عليه وآله أحد قبل عليّ بن أبي طالب وخديجة عليهما السّلام، ولقد مكث رسول الله صلّى الله عليه وآله بمكة ثلاث سنين مُختفياً خائفاً يترقب، ويخاف قومه والنّاس، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة إليه. 68
وعن عبيد الله بن عليّ الحلبي، قال:
سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول: مكث رسول الله صلّى الله عليه وآله بمكة بعد ما جاءه الوحي عن الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة، منها ثلاث سنين مُختفياً خائفاً لا يظهر حتّى أمره الله عزّ وجل أن يصدع بما أمره به، فأظهر حينئذ الدّعوة. 69.
وفى خبر آخر، أنّه عليه السّلام كان مُختفياً بمكة ثلاث سنين. 70
وعن أبي العالية، قوله: وعد الله الذّين آمنوا منكُم وعملوا الصّالحات... الآية، قال: مكث النّبيّ صلّى الله عليه وآله عشر سنين خائفاً يدعو إلى الله سرّاً وعلانية، قال: ثمّ أمر بالهجرة إلى المدينة. قال: فمكث بها هو وأصحابه خائفون، يصبحون في السّلاح ويمسون فيه... الحديث. 71
وقال ابن عباس للإمام الحُسين عليه السّلام: لا تخرج إلى العراق وكُن باليمن؛ لحصانتها ورجالها. فقال عليه السّلام: إنّي لم أخرج بطراً ولا أشراً ولا مُفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت أطلب الصّلاح في أمّة جدّي مُحمّد، أريد آمر بالمعروف وأنهى عن المُنكر، أسير بسيرة جدّي وسيرة أبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ وهو أحكم الحاكمين. قالوا: فخرج ليلة الثّالث من شعبان سنة ستين وهو يقرأ: فخرج منها خائفاً يترقب.. الآية. 72
وقال الشّيخ المُفيد في إرشاده: فسار الحُسين عليه السّلام إلى مكة وهو يقرأ: فخرج منها خائفاً يترقب، قال ربّ نجّني من القوم الظّالمين ولزم الطّريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطّريق الأعظم كما صنع ابن الزّبير لئلا يلحقك الطّلب، فقال: لا والله، لا أفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض. 73
وهجرة النّبيّ صلّى الله عليه وآله من مكة إلى المدينة, وحفر النّبيّ صلّى الله عليه وآله الخندق حول المدينة,وغيرها. يمكن أن نقول:
إنّ نتيجة البحث المُتقدم مع أقتظابه، هو أنّ الخوف لا يُنافي المعرفة بالله ولا التّوكل عليه, وليس هو الفرار من الموت، مع وجود مصلحة أعظم من إزهاق النّفس في سبيل الله جلّ وعلا, بل هو خوف إضافي، أي خوف على الرّسالة من التّصدّع، وعلى الأمّة من التّشتّت, وألاّ تذهب جهود الأنبياء والأوصياء سُدى؛ وإن كان الخوف على النّفس مما لا مفرّ عنه ولا عيب فيه. بل أنّ الخوف من الأعداء سنّة الله في خلقه مع معرفتهم وثقتهم به وتوكّلهم عليه, ولكنّ هذا الخوف موكول إلى عدم وجود مصلحة يخاف فواتها، وهي أكبر وأعظم من المخاطرة بالنّفس, فنقول: من المُستحيل أنّ تكون هجرة وفرار الأنبياء من بلد إلى آخر، هو فرارهم من الموت بما هو موت, بل لكي يُحافظوا على أنفسهم لأداء المهمّة الرسالية في توجيه العباد وإعمار الارض والبلاد؛ تطبيقاً لإرادة الله تعالى؛ وذلك لوجود مصلحة هي أعظم من المخاطرة بالنّفس, والذي نراه في الخارج من النّاس الذّين لم يصلوا إلى مرتبة الأنبياء والرّسل والأولياء بأنّهم يقدمون أنفسهم للشّهادة إن دعت الظّرورة العقيديّة إلى ذلك, بلا تلكئ ولا تردّد, فهل من المُمكن والمعقول أن يتمتع هولاء النّفر من النّاس بقوّة وصلابة إيمان وحرص على الرّسالة أكثر وأشدّ من الأنبياء والأئمّة والأولياء عليهم السّلام؟! بل ممّا لا يُليق بالسّاحة القُدسيّة الإلهيّة أنّ يجعل له أولياءً مُبشرين ومُنذرين له, بل حاملين لرسالاته سبحانه وتعالى, ولم يكُن لديهم الاستعداد للتّضحية بالنّفس إن دعا الأمر لذلك, فهذا ممّا لا يعقله عاقل. فنقول:
إنّ الأمر نفسه بالنّسبة إلى قائم آل مُحمّد، وحيدر الزّهراء عليهم الصّلوات وأزكى التّحيات فهو مُختف - وليس فاراً من الموت بما هو موت – فحاله حال الأنبياء عندما إختفوا عن شرار الأمم, مثل إلياس والخضر وعيسى بن مريم على النّبيّ الأعظم وآله وعليهم السّلام, بأمر إلهي, لئلاّ ينتقض الغرض الرّباني، والهدف السّماوي في الخلق, فتكون في غيبتهم مصلحة ربّانية عُليا، لا يعلمها على حقيقتها إلاّ الله تعالى، أو يُعلم من يَعلم أنّه تتم المصلحة بإعلامه.
وهذا مما بيّنه أهلُ البيت عليهم السّلام، حيث ورد عن أبي بصير، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: في صاحب هذا الأمر سنّة من موسى، وسنّة من عيسى، وسنّة من يوسف، وسنّة من مُحمّد صلّى الله عليه وآله: فأمّا من موسى فخائف يترقب، وأمّا من عيسى فيقال فيه ما قد قيل في عيسى، وأمّا من يوسف: فالسّجن والغيبة، وأمّا من مُحمّد صلّى الله عليه وآله فالقيام بسيرته وتبيين آثاره، ثمّ يضع سيفه على عاتقه ثمانية أشهر، فلا يزال يقتل أعداء الله حتّى يرضا الله عزّ وجل، قلت: وكيف يعلم أنّ الله تعالى قد رضا؟ قال: يُلقي الله عزّ وجل في قلبه الرّحمة. 74
وعن مُحمّد بن مُسلم الثّقفي الطّحان قال: دخلت على أبي جعفر مُحمّد بن عليّ الباقر عليهما السّلام وأنا أُريد أن أسأله عن القائم من آل مُحمّد صلّى الله عليه وعليهم، فقال لي مُبتدئاً: يا مُحمّد ابن مُسلم، إنّ في القائم من آل مُحمّد صلّى الله عليه وآله شبهاً من خمسة من الرّسل: يونس بن متى، ويوسف بن يعقوب، وموسى، وعيسى، ومُحمّد، صلوات الله عليهم:. فأمّا شبههُ من يُونس بن متى: فرجوعه من غيبته وهو شاب بعد كبر السّن، و أمّا شبهه من يوسف بن يعقوب عليهما السّلام: فالغيبة من خاصّته وعامّته، واختفاؤه من إخوته وإشكال أمره على أبيه يعقوب عليهما السّلام، مع قُرب المسافة بينه وبين أبيه وأهله و شيعته. وأمّا شبهه من موسى عليه السّلام فدوام خوفه، وطول غيبته، وخفاء ولادته، وتعب شيعته من بعده ممّا لقوا من الأذى والهوان إلى أن أذن الله عزّ وجل في ظهوره ونصره وأيده على عدوّه. وأمّا شبهه من عيسى عليه السّلام: فاختلاف من اختلف فيه، حتّى قالت طائفة منهم: ما ولد، وقالت طائفة: مات، وقالت طائفة: قتل وصُلب. وأمّا شبهه من جدّه المُصطفى صلّى الله عليه وآله فخُروجه بالسّيف، وقتله أعداء الله وأعداء رسوله صلّى الله عليه وآله، والجبّارين والطّواغيت، وأنّه ينصر بالسّيف والرّعب، وأنّه لاتُرد له راية. 75
وعن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام ممّن يوثق به، أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام تكلّم بهذا الكّلام، وحفظ عنه، وخطب به على منبر الكّوفة: اللّهم، إنّه لا بدّ لك من حُجج في أرضك... اللّهم، فإنّي لأعلم أنّ العلم لا يأزر كُلّه، ولا ينقطع مواده وآنذك لا تخلي أرضك من حُجّة لك على خلقك، ظاهر ليس بالمُطاع، أو خائف مغمور؛ كيلا تبطل حجّتك ولا يضل أولياؤك بعد إذ هديتهم، بل أين هم؟ وكم هم؟ أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً. 76
وعن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام، قال: إذا فُقد الخامس من ولد السّابع فالله الله في أديانكم، لا يزيلكم عنها أحد، يا بني، إنّه لا بدّ لصاحب هذا الأمر من غيبة، حتّى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنّما هو محنة من الله عزّ وجل امتحن بها خلقه، لو علم آباؤكم وأجدادكم ديناً أصحّ من هذا لاتبعوه. الحديث. 77
وعن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول: إنّ للغلام غيبة قبل أن يقوم، قال: قلت وَلِمَ؟ قال: يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه - ثمّ قال: يا زرارة وهو المُنتظر، وهو الذي يشكّ في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: إنّه ولد قبل موت أبيه بسنتين، وهو المُنتظر، غير أنّ الله عزّ وجل يحُبّ أن يمتحن الشّيعة، فعند ذلك يرتاب المُبطلون الحديث. 78
وعن كُميل بن زياد، قال: خرج إليّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فأخذ بيدي وأخرجني إلى الجبان، وجلس وجلست، ثمّ رفع رأسه إليّ، فقال: يا كُميل، إحفظ عنّي ما أقول لك: النّاس ثلاثة: عالم ربّاني، ومُتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رُعاع، أتباع كُلّ ناعق، يميلون مع كُلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق،...إلى أن قال: اللّهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم بحجّة ظاهر أو خاف مغمور؛ لئلا تبطل حُجج الله وبيّناته، وكم وأين؟! أولئك الأقلون عدداً الأعظمون خطراً، الحديث. 79
وعن إبراهيم بن أبي محمود، قال: قال الرّضا عليه السّلام: ولا تخلو الأرض من قائم منّا ظاهر أو خاف، ولو خلت يوماً بغير حُجّة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله. 80
وعن مُحمّد بن إبراهيم بن إسحاق رضي الله عنه، قال: أخبرنا أحمد بن مُحمّد الهمداني، قال: حدثنا مُحمّد بن هشام، قال: حدثنا عليّ بن الحسن السّائح، قال: سمعت الحسن بن عليّ العسكري يقول: حدثني أبي، عن أبيه، عن جدّه عليهم السّلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لعّلي بن أبي طالب عليه السّلام: يا عليّ، لا يحبك إلاّ من طابت ولادته، ولا يبغضك إلاّ من خبثت ولادته، ولا يواليك إلاّ مؤمن، ولا يعاديك إلاّ كافر، فقام إليه عبد الله بن مسعود، فقال: يا رسول الله، قد عرفنا علامة خبيث الوّلادة والكّافر في حياتك ببغض عليّ وعداوته، فما علامة خبيث الوّلادة والكّافر بعدك، إذا أظهر الإسلام بلسانه وأخفى مكنون سريرته؟
فقال عليه السّلام: يا ابن مسعود، عليّ بن أبي طالب إمامكم بعدي وخليفتي عليكم، فإذا مضى فابني الحسن إمامكم بعده وخليفتي عليكم، فإذا مضى فابني الحُسين إمامكم بعده وخليفتي عليكم، ثمّ تسعة من ولد الحُسين واحد بعد واحد أئمتكم وخلفائي عليكم، تاسعهم قائم أمّتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً، لا يحبّهم إلاّ من طابت ولادته، ولا يبغضهم إلاّ من خبثت ولادته، ولا يواليهم إلاّ مؤمن، ولا يعاديهم إلاّ كافر، من أنكر واحداً منهم فقد أنكرني، ومن أنكرني فقد أنكر الله عزّ وجل، ومن جحد واحداً منهم فقد جحدني، ومن جحدني فقد جحد الله عزّ وجل، لأنّ طاعتهم طاعتي، وطاعتي طاعة الله، ومعصيتهم معصيتي، ومعصيتي معصية الله عزّ وجل، يا أبن مسعود إياك أن تجد في نفسك حرجاّ ممّا أقضي فتكفُر، فوعزة ربّي ما أنا مُتكلّف ولا ناطق عن الهوى في عليّ والأئمّة من ولده، ثمّ قال عليه السّلام - وهو رافع يديه إلى السّماء -: اللّهم، وال من والى خُلفاني، وأئمّة أمّتي بعدي، وعاد من عاداهم، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، ولا تخل الأرض من قائم منهم بحجتك ظاهراً أو خافياً مغموراً، لئلا يبطل دينك وحجّتك وبرهانك وبيّناتك، ثمّ قال عليه السّلام: يا ابن مسعود، قد جمعت لكم في مقامي هذا ما إن فارقتموه هلكتم، وإن تمسّكتم به نجوتم، والسّلام على من اتبع الهدى. 81
وروى عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال لعليّ بن أبى طالب عليه السّلام:.... وهو رافع يديه إلى السّماء: اللّهم وال من والى خُلفائي وأئمّة أُمّتى من بعدي وعاد من عاداهم، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، ولا تخل الأرض من قائم منهم بحجّتك، أمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً؛ لئلا يبطل دينك وحجّتك وبيناتك. 82
وقال العلاّمة المجلسي في بحاره، ما نصّه: وحاصل الكّلام أنّه بعد ما ثبت من الحُسن والقبح العقليين، وأنّ العقل يحكُم بأنّ اللطف على الله تعالى واجب، وأنّ وجود الإمام لطف، باتفاق جميع العُقلاء، على أنّ المصلحة في وجود رئيس يدعو إلى الصّلاح، ويمنع عن الفساد، وأنّ وجوده أصلح للعباد وأقرب إلى طاعتهم، وأنّه لابدّ أن يكون معصوماً، وأنّ العصمة لاتعلم إلاّ من جهته تعالى، وأنّ الإجماع واقع على عدم عصمة غير صاحب الزّمان عليه السّلام يثبت وجوده.
وأمّا غيبته عن المخالفين، فظاهر أنّه مُستند إلى تقصيرهم، وأمّا عن المقرّين فيُمكن أن يكون بعضهم مُقصّرين وبعضهم مع عدم تقصيرهم ممنوعين من بعض الفوائد التي تترتّب على ظهوره عليه السّلام؛ لمفسدة لهم في ذلك ينشأ من المُخالفين، أو لمصلحة لهم في غيبته بأن يؤمنوا به مع خفاء الأمر وظهور الشّبه، وشدّة المشقّة، فيكونوا أعظم ثواباً مع أن إيصال الإمام فوائده وهديّاته لا يتوقف على ظهوره بحيث يعرفونه، فيُمكن أن يصل منه عليه السّلام إلى أكثر الشّيعة ألطاف كثيرة، لا يعرفونه كما سيأتي عنه عليه السّلام أنه في غيبته كالشّمس تحت السّحاب. على أنّ في غيبات الأنبياء دليلاً بيّناً على أنّ في هذا النّوع من وجود الحجّة مصلحة وإلاّ لم يصدر منه تعالى. وأمّا الاعتراضات الموردة على كُلّ من تلك المُقدمات وأجوبتها فموكول إلى مظانّه.83
النّتيجة: تَبين وظَهر مما تمّ نقله بأن الغيبة هي لمصلحة تقتضيها الإرادة الرّبانيّة, وأنّها بأمر إلهي. وتبيّن كذلك بأنّ خوف الحُجّة الغائب المُنتظر ظهوره عجّل الله تعالى فرجه, كخوف الأنبياءعلى نبينا وعليهم السّلام وهو إضافي بلحاظ الامّة والرسالة الحقّة, وهذا خوف ممدوح بلا خلاف, قال الله تعالى: إنّما يخشى الله من عباده العُلماء وقال جل ثناؤه: فلا تخشوا النّاس واخشون وقال تبارك وتعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً.
وقول الله عزّ وجل: ولمن خاف مقام ربّه جنتان وعن أبي ذرّ - رحمه الله - قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو في المسجد جالساً وحده، فاغتنمت خلوته، فقال لي:... لا تخف في الله لومة لائم. الحديث. 84
وعن أبي عبد الله عليه السّلام، قال: قلت له: ما كان في وصيّة لقمان؟ قال: كان فيها الأعاجيب وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف الله عزّ وجل خيفة لو جئته ببرّ الثّقلين لعذّبك، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثّقلين لرحمك. 85
وعن إسحاق بن عمار، قال: قال أبو عبد الله عليه السّلام: يا إسحاق، خف الله كأنّك تراه، وإن كُنت لا تراه فإنّه يراك، فإن كُنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كُنت تعلم أنّه يراك ثمّ برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون النّاظرين عليك.86
وعن الهيثم بن واقد، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول: من خاف الله أخاف الله منه كُلّ شئ، ومن لم يخف الله أخافه الله من كُلّ شئ. 87
وعن ابن مسكان، عن الحسن بن أبي سارة، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول: لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو.88
وليس الخوف المذموم كالفرارمن الزّحف والدّفاع عن العرض والمال وغيره ممّا هو مُفصّل في الكُتب المُخصّصة لذلك، ومن المُتعارف فانّ الذّي يفرّ لم يكُن بأمر سماويّ صرف, وأمّا من كان يختفي ويغيب بشكل مُعجز وبأمر الله تعالى من البعيد أن يُطلق عليه بالفار, بل أنّه مُختفي...
أمّا بخصوص المقام الثّاني، أي في فتوحات عُمر بن الخطاب, فنقول: لا نُريد أن نسأل ونقول من هو عُمر؟! وندخل في أمور نحن في غنى عنها, وكذا عن ما كان يُشكّله من خطورة على الإسلام والمُسلمين آنذاك, وعن وقت إسلامة؟ وما الذّي قدّمه خلال حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله من خدمة يُقتدى بها وتستحق الاحترام والتّقدير؟ بل العكس هو الأصحّ, ولا نُريد أن ندخل في مقارنة, بين عُمر وأهل بيت النّبوّة والطّهارة؛ لأنّ هذه المقارنة غير صحيحة من الأصل، فأين الثّرى من الثُّريا, ولكن أُريد أنّ أتسائل وأقول من باب ضرب المثال ليس إلاّ, هل يقاس عُمر بن الخطاب بمن كانت ضربته يوم الخندق أفضل من عبادة الثّقلين, يوم يُنادى عُمر بن ود العامري بالبراز ولم يجيبه أحد, فقال المُصطفى صلّى الله عليه وآله لأصحابه وهم مطيفون به: أيّكم يبرز إلى عُمرو وأضمن له على الله الجنّة؟ فلم يجبه منهم أحد؛ هيبة لعُمرو واستعظاماّ لأمره، فقام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال له الرسول صلّى الله عليه وآله: اجلس. ونادى أصحابه دفعة أخرى، فلم يقم منهم أحد، فقام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فأمره بالجلوس، ونادى الثّالثة فلمّا لم يجبه أحد سواه، استدناه وعمّمه بيده وأمره بالبروز إلى عدوّه، فتقدّم إليه ورسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: برز الإيمان كُلّه إلى الشّرك كُلّه، وكان عُمرو حينئذ يرتجز ويقول:
ولقد بححت من النّداء بجمعكُم هل من مُبارز * ووقفت إذ جبن الشّجاع موقف الخصم المُناجز إنّي كذلك لم أزل مُتسرعاّ نحو الهزاهز * إنّ الشّجاعة في الفتي والجود من كرم الغرائز فتقدّم إليه أمير المؤمنين صلّى الله عليه وآله، وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتاك مُجيب صوتك غير عاجز * ذو نيّة وبصيرة والصّدق مُنجى كُلّ فائز إنّي لأرجو أن تقوم عليك نائحة الجنائز * من طعنة نجلاء يبقى ذكرها بين الهزاهز ثمّ جادله فما كان بأسرع من أن صرعه أمير المؤمنين. 89
وفى المناقب، عن حُذيفة بن اليمّان رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة. 90
أخرج أبو نعيم الحافظ، عن ابن مسعود، قال:
لما قتل علي عُمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أنزل الله تعالى: وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ. 91
وروى الحافظ جلال الدّين السّيوطي: إنّ هذه الآية: وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ، في مصحف ابن مسعود. 92
فهذه واحدة من أبي الحسن عليّ عليه السّلام وغيرها أكثر, فاين كان عُمر؟ ولماذا لم يُبارزعُمرو بن ودّ العامري؟! وقد دعاهم النّبيّ الأعظم لمنازلته, بل أحجموا وفرّوا فرار العبيد, بل هرب الأوّل والثّاني يوم أُحد وخيبر, فاين كان عن هذا وذاك. 93
وعن الزّهري، قال: كتب عُمر بن عبد العزيز إلى سالم ليكتب إليه بسيرة عُمر في الصّدقات، فكتب إليه بذلك، وكتب إليه: إنّك إن عملت بمثل عمل عُمر في زمانه ورجاله في مثل زمانك ورجالك، كنت عند الله خيراّ من عُمر. 94
فأين بطولة وشجاعة عُمر وخصوصاً في صدرالإسلام, حينما كانوا آنذاك في أمسّ الحاجة إلى الأبطال والشّجعان والفُرسان, ولكن يُمكن أن يقال بأنّه رأى ليس من الضّرورة أن يظهر ما عنده من القوة والشّجاعة وغيرها في هذا الوقت, وإنّما يدّخرها إلى ما بعد وفاة الرّسول صلّى الله عليه وآله!! أي إلى السّقيفة وما بعدها, من ضرب فاطمة عليها السّلام واسقاط جنينها وكسر ظلعها و...و..!! وبالفعل أدّى دوره على أقبح وجه, وبعد أن نفّذ ما يُريد الباطل تنفيذه، وأدّى ما يريد الشّيطان تأديته...
ففي الوقت الذي عظمت فيه شوكة الدّين، وأخذ بجرانه إلى عُموم العالم, ظهر إلى النّاس بالفتوحات، التي قامت على أكتاف أصحاب أمير المؤمنين عليه السّلام. والذّي كان فيها لايُعد إلا مصدراً لمجموعة من الأوامر ليس إلاّ. والصحيح: إنّ فتوحات عُمر بن الخطاب كانت خاطئة، وأنتجت مردودات سلبيّة على الإسلام والمُسلمين, لأنّه لو تتبعنا سيرة رسول الإسلام صلّى الله عليه وآله، فإنّه لم يُهاجم أحداً، لأنّه جاء لجلب النّاس إلى الإسلام, الإسلام القائم على الرّحمة والأخلاق الحسنة ونبذ القتل والتّشريد والاستعباد، بل كانت حُروبه صلّى الله عليه وآله جميعها دفاعيّة، ولذلك دخل النّاس في الإسلام فرادى وأفواجاً، لأنّهم عرفوا أنّ الإسلام دين سلم وسلام وأمّان واحترام و...و... ولكنّ نرى عُمر قد هاجم وحارب كثيراً من الشّعوب والبُلدان، وجاء بهم إلى الإسلام بالسّيف والقوّة والقهر، ولذلك كره بعض النّاس الإسلام، واتهموه بأنّه دين السّيف والقوّة، لا دين المنطق واللّين، وصار ذلك سبباّ لكثرة أعداء الإسلام، ففتوحات عُمر شوّهت سمعة الإسلام والمُسلمين، وأعطت نتائج سلبية معكوسة. فأين فتوحات عُمر من فتوحات الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؟! ففتوحات الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله حصلت وتحقّقت على يد الإمام عليّ بن أبي طالب، مثل بدر وفتح خيبر وحنين وأُحد والخندق وغيرها. و لولا هذه الفتوحات التي هي أساس الإسلام لم يكُن هنالك إسلام ولا إيمان. ومن الدّليل على ذلك هو: قول النّبيّ صلّى الله عليه وآله كما مرّ: برز الإيمان كُلّه إلى الشّرك كُلّه، إلهي إن شئت أن لا تُعبد فلا تعبد. يعني فلا يبقي بعده إسلام وإيمان.
وقال صلّى الله عليه وآله: ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين. وكثير من أقواله صلّى الله عليه وآله الأخرى, التي جاءت تبيّن حقّ وحقيقة هذا الإمام الهُمام عليه السّلام. وكذا أهل بيته عليهم السّلام من بعده. فهذا هو عُمر بن الخطاب بسطور وأهل البيت عليهم السّلام بإشارات ولمحات مُقتضبة, والمُنصف يبحث ويطّلع ويُقارن ويصل إلى النّتيجة المرجوة بنفسة...
وأمّا الحجّة المُنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشّريف، فنقول فيه: هو الإمام مُحمّد المهدي المُنتظر، ابن الإمام الحسن العسكري، ابن الإمام عليّ الهادي، ابن الإمام مُحمّد الجواد، ابن الإمام عليّ الرّضا، ابن الإمام موسى الكاظم، ابن الإمام جعفر الصّادق، ابن الإمام مُحمّد الباقر، ابن الإمام عليّ زين العابدين، ابن الإمام الحُسين الشّهيد، ابن الإمام عليّ بن أبي طالب، وابن سيّدة نساء العالمين فاطمة الزّهراء، بنت خاتم الأنبياء والمرسلين مُحمّد صلّى الله عليه وآله. ولد قبل أكثر من ألف ومئتين سنة، ولا يزال حيّاً إلى يومنا هذا، وإلى أن يشاء الله تعالى، وهو يعيش و يأكل ويشرب كما تأكل النّاس، ويعبد الله وينتظر الأمر من الله بالخُروج والظّهور للنّاس وإحقاق الحقّ والعدل الإلهي، غائب عن الأنظار، وقد يراه النّاس ولا يعرفونه، وهو لا يُعرّف نفسه لهم، ويحضر في كُلّ مكان وزمان إن أراد، وله إشراف على العالم وإحاطة بالعباد، يعلم بإذن الله كُلّ ما يجري في العالم, وسيظهره الباري في يوم معلوم عند الله، مجهول عند العباد، وتحدث علائم حتميّة قبل ظهوره، فإذا ظهر يحكُم على الكُرة الأرضيّة جميعاً، وينزل عيسى عليه السّلام من السّماء ويُصلّي خلفه، تخضع له جميع الدّول والشّعوب في العالم بلا استثناء، وتنقاد له الأديان والملل كافّة، يأتي بالإسلام الصّحيح الذي جاء به مُحمّد صلّى الله عليه وآله، والاختفاء عن العيون فلا تراه العيون مع كونه موجوداً، كما أنّ العيون لا ترى الأرواح ولا الملائكة ولا الجنّ مع تواجدها في المجتمعات البشريّة, ومع قصر عُمره الشّريف ظاهراً إمام النّاس، والتي كانت خمس سنوات على أكثر الأقوال, ومع وجود الكم الهائل من الأحاديث والرّوايات الواردة بحقّة, والتي تُبيّن إنّه يهز أركان الطّواغيت وعروشهم. وإنّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.95
وإنّه رجل يخرج في آخر الزّمان يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً. 96
وإنّه المهدي خاتم الأئمة عليه السّلام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً. 97
ولو لم يبق من الدّنيا إلاّ يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث الله فيه رجلاً منّي - أو من أهل بيتي- يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه إسم أبي، يملأ الأرض قُسطاً وعدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً.98 وغير ذلك من الرّوايات والأحاديث الواردة عن الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله، أو الأئمة عليهم السّلام في حقّه...
وللإمام غيبتان: غيبة صغرى كان يلتقي بالنّاس عن طريق الوكلاء الخاصّين الأربعة, فهوغير منقطع ولكنه مُختفي عن عُموم النّاس بأمر ربّاني، حتّى جاء دور الغيبة الكُبرى, فهنا انقطعت السّفارة الخاصّة بموت آخر السّفراء الأربعة، فاختفى عن العامّة والخاصّة؛ لحكمة ربّانيّة عظيمة لا يطلع على مكنوناتها وحقيقتها إلاّ الله تعالى ومن ارتضى، وكذلك لأسباب وعلل تعود للنّاس أنفسهم، ومع اختفائه ظلّ نوره ولطفه يشع على البشرية جميعاً.
ورد عن جابر بن يزيد الجُعفي، قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: لمّا أنزل الله عزّ وجل على نبيّه مُحمّد صلّى الله عليه وآله: يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكُم. قلت: يا رسول الله، عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال عليه السّلام: هم خُلفائي يا جابر، وأئمة المُسلمين من بعدي أوّلهم عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن والحُسين، ثمّ عليّ بن الحُسين، ثمّ مُحمّد بن عليّ المعروف في التّوراة بالباقر، و ستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه منّي السّلام، ثمّ الصّادق جعفر بن مُحمّد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ عليّ بن موسى، ثمّ مُحمّد بن عليّ، ثمّ عليّ بن مُحمّد، ثمّ الحسن بن عليّ، ثمّ سميّي وكنيّي حجّة الله في أرضه، وبقيّته في عباده ابن الحسن بن عليّ، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان، قال جابر: فقلت له: يا رسول الله، فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال عليه السّلام: إى والذي بعثني بالنّبوّة، إنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع النّاس بالشّمس وإن تجللها سحاب، يا جابر، هذا من مكنون سرّ الله، ومخزون علمه، فاكتمه إلاّ عن أهله.99
وعن الصّادق جعفر بن مُحمّد، عن أبيه مُحمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحُسين عليهم السّلام قال: لم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة الله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم السّاعة من حجّة الله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله. قال: سليمان، فقلت للصّادق عليه السّلام: فكيف ينتفع النّاس بالحجّة الغائب المستور؟ قال: كما ينتفعون بالشّمس إذا سترها السّحاب.100
وعن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت مُحمّد بن عثمان العُمري رضي الله عنه أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد في التّوقيع بخط مولانا صاحب الزّمان عليه السّلام: وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشّمس إذا غيبتها عن الأبصار السّحاب، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النّجوم أمان لأهل السّماء، فأغلقوا باب السّؤال عما لا يعنيكُم، ولا تتكلّفوا علم ما قد كفيتم، وأكثروا الدّعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرجكم والسّلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى. 101
وغيرها من الرّوايات التي يطيل الكلام بذكرها وإنّما ذكرنا هذا من باب الشّاهد والدّليل ليس إلاّ، ومن رام المزيد فليراجع الكتب المُختصّة بالحديث ليصل إلى مُراده.
وأمّا مسألة السّرداب. فقد أجاب الشّيخ الأميني رضي الله عنه في غديره, حيث قال ما نصّه: والشّيعة لا ترى أنّ غيبة الإمام في السّرداب، ولاهم غيّبوه فيه ولا أنّه يظهر منه، وإنّما اعتقادهم المدعوم بأحاديثهم أنّه يظهر بمكة المُعظّمة تجاه البيت، ولم يقل أحد في السّرداب إنّه مغيب ذلك النّور، وإنّما هو سرداب دار الأئمة بسامراء، وإن من المطرد إيجاد السّراديب في الدّور، وقاية من قايظ الحر، وإنّما اكتسب هذا السّرداب خصوصيّة الشّرف الباذخ لانتسابه إلى أئمة الدّين، وإنّه كان مبوء لثلاثة منهم، كبقية مساكن هذه الدّار المُباركة، وهذا هو الشّأن في بيوت الأئمة عليهم السّلام ومشرفهم النّبيّ الأعظم في أي حاضرة كانت. 102 فمن المُمكن أن يكون السّرداب الموجود في سامراء مُصلّى للإمامين: عليّ الهادى والحسن العسكري عليهما السّلام، اتخذاه مُصلّى لهما للعبادة، فقد كانوا يتخذون في بيوتهم مُصلّى يعبدون الله فيه، ثمّ بقى كذلك حتّى اليوم.
إذن، بعد الذي تقدّم بما فيه من الاختصار نقول: قد اتضح معنى الخوف الوّارد في حقّ الحُجّة عجّل الله تعالى فرجه, وأنّه كخوف الأنبياء عليهم السّلام، فخوفه وخوفهم عليهم السّلام خوف ممدوح وليس مذموماً هذا أوّلاً.
وأمّا ثانياً، قد عرفنا مَن هُم أهلُ البيت عليهم السّلام ومن هوعُمر بشئ من المقارنة البسيطة بينهما مجازاً, وذكرنا بإيجاز من هو الحُجّة بن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشّريف, وقلنا أنّ فَضله على أهل الأرض كفضل الشّمس على أهل السّماء, وإنّ السّرداب الذّي في سامراء هو محلّ ومكان لعبادة الأمامين الهادي والعسكري عليهما السّلام, وأنّ ظهور الحُجّة عجل الله تعالى فرجه هو من مكة المُكرمة، ولم يقل أحد من الشّيعة أنّه يظهر من سامراء.
فتأمّلي ولا تذهبنّ بك المذاهب، وتهزّك الأوهام المُصطنعة، ولا تلتبس عليك اللوابس، فالحقّ واضح والباطل فاضح...
والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.



هوامش
1 – هذه الرّسالة الشريفة كتبها سماحة آية الله الحاج الشّيخ عبد الكريم العقيلي، جواباً على سؤال ورد من إحدى الأخوات، هذا نصّه:
هذا سؤال أهل السنّة فما هو جواب سماحتكم:
إذا كان عُلماء الشّيعة مُطبقون قديماً وحديثاً على أنّ من شروط الإمام أن يكون أشجع النّاس ولذلك يحاولون بشتى الصّور التّقليل والطّعن في شجاعة الخُلفاء الثّلاثة بمُناسبة وبغير مُناسبة، فماذا يقولون في القائم الذي ذكر عُلماء الشّيعة أنفسهم أنّ من ألقابه الخائف! ورووا روايات في غيبته خوفاً من العباسيين هل تستطيعون أن تقارنوا بين من جابه العدو فلم يصمد أمامه فانهزم كعُمر بن الخطاب، الذي ربما لم يكُن جنديّاً مُتميزاً لكنه كان قائداً سياسيّاً عظيماً، وبين من خاف من مُلاقاة العدو واختبأ في جحر صغير في سرداب عتيق، وما زال خائفاً حتّى اليوم بعد مضي أكثر من ألف ومئة سنة؟
2 - لسان العرب لابن منظور: 9/99.
3 - مختار الصّحاح لمُحمّد بن عبد القادر: 107.
4 - تاج العروس للزّبيدي: 6/105.
5 – نقلاً عن مجمع البحرين للشّيخ الطّريحي: 1/712.
6 – ص: 22.
7 - تفسير الميزان للسّيد الطّباطبائي: 17/191.
8 - نفس المصدر السّابق.
9 - التّبيان للشّيخ الطّوسي: 8/551.
10 - تفسير مجمع البيان للشّيخ الطّبرسي: 8/351.
11 - التّفسير الأصفى للفيض الكاشاني: 2/1066, جامع البيان لإبن جرير الطّبري: 23/168.
12 - الذّاريات: 24- 25.
13 - تفسير الميزان: 18/377.
14 - التّبيان: 9/387.
15 - تفسير القُرطبي: 17/45.
16- هود: 70.
17 - تفسير الميزان: 18/378.
18 - جامع البيان: 12/93.
19 - التّفسير الأصفى: 1/546.
20 - الذّاريات: 28.
21 - الحجر: 61-62.
22 - تفسير مجمع البيان: 6/123.
23 - التّفسير الأصفى: 1/633.
24 - القصص: 25.
25 - تفسير ابن كثير: 3/396.
26 - تفسير الجلالين: 511.
27 - جامع البيان لإبن جرير الطبري: 20/75, معاني القرآن للنحاس: 5/175, زاد المسير لابن الجوزي: 6/95.
28 - القصص: 18.
29 - التبيان: 8/138.
30 - تفسير مجمع البيان: 7/424.
31 - جامع البيان لابن جرير الطبري: 20/58.
32 - القصص: 21.
33 - التفسير الصافي: 4/85.
34 - تفسير القرآن: 3/89.
35 - القصص: 31.
36 - النمل: 10.
37 - تفسير الميزان: 16/33.
38 - التّبيان: 8/148.
39 - تفسير مجمع البيان: 7/365.
40 - النّمل: 9- 10.
41 - تفسير الميزان: 15/344.
42 - التّبيان: 8/78.
43 - تفسير القُرطبي: 13/160.
44 - تفسير ابن كثير: 3/369.
45 - طه: 19- 21.
46 - تفسير الميزان: 14/144.
47 - تفسير مجمع البيان: 7/436.
48 - التّفسير الصّافي للفيض الكاشاني: 3/304.
49 - جامع البيان لابن جرير الطّبري: 16/196.
50 - طه: 67- 68.
51 - التّبيان: 7/187.
52 - تفسير القُمي: 2/121.
53 - طه: 45- 46.
54 - تفسير الميزان: 14/156.
55 - التّبيان للشّيخ الطّوسي: 7/176.
56 - - تفسير ابن كثير: 3/162.
57 - الفتح: 26.
58 - التّبيان: 9/334.
60 - التّوبة: 26.
61 - التّبيان: 5/198.
62 - تفسير القُرطبي: 8/101.
63 - تفسير ابن كثير: 2/358.
64 - زاد المسير: 3/283.
65 - التّوبة: 40.
66 - التّفسير الصّافي: 2/344.
67 - كمال الدّين وتمام النّعمة للشّيخ الصّدوق: 344.
68 - نفس المصدر السّابق: 328, بحار الأنوار للعلامة المجلسي: 18/188.
69 - نفس المصدر السّابق: 344.
70 - نفس المصدر السّابق.
71 - جامع البيان لابن جرير الطّبري: 18/212.
72 - مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: 3/240.
73 - الإرشاد للشّيخ المُفيد: 2/35.
74 - كمال الدّين وتمام النّعمة للشّيخ الصّدوق: 329.
75 - نفس المصدر السّابق: 327.
76 - الكافي للشّيخ الكُليني: 1/339.
77 - نفس المصدر السّابق: 1/335.
78 - نفس المصدر السّابق: 1/337.
79 - الخصال: 186, كمال الدّين وتمام النّعمة للشّيخ الصّدوق: 290.
80 - كمال الدّين وتمام النّعمة: 202.
81 - نفس المصدر السّابق: 261.
82 - الاحتجاج للشّيخ الطّبرسي: 1/88.
83 - بحار الأنوار للعلامة المجلسي: 51/214.
84 - معاني الأخبار للشّيخ الصّدوق: 333.
85 - الكافي للشّيخ الكُليني: 2/67.
86 - نفس المصدر السّابق: 2/68.
87 - نفس المصدر السّابق.
88 - نفس المصدر السّابق: 2/71.
89 - كنزالفوائد لأبي الفتح الكراجكي: 136.
90 - ينابيع المودّة لذوي القُربى للقُندوزي: 1/412.
91 - نفس المصدر السّابق.
92 - نفس المصدر السّابق.
93 - سير أعلام النّبلاء للذّهبي: 5/127.
94 - نفس المصدر السّابق: 5/127.
95 - الأمالي للشّيخ الطّوسي: 637.
96 - نفس المصدر السّابق: 499.
97 - عيون المُعجزات لحسين بن عبد الوهاب: 130.
98 - ينابيع المودّة لذوي القربى: 3/256.
99 - كمال الدّين وتمام النّعمة: 253. تفسير نور الثّقلين للشّيخ الحويزي: 1/499. تفسير الميزان: 4/408. إعلام الورى بأعلام الهُدى للشّيخ الطّبرسي: 2/182.
100 - كمال الدّين وتمام النّعمة: 207. الأمالي: 252.
101 - كمال الدّين وتمام النّعمة: 483. الغيبة: 290.
102 - الغدير للشّيخ الأميني: 3/308.